شهر رمضان الكريم موسم من مواسم الطاعة والعبادة، تضاعف فيه الحسنات، وفيه يفتح الله أبواب الاستجابة والقبول. فهو موسم يشحن طاقة المؤمن بقابس آخر هو قابس الصوم، فيشحذ الهمم الى طلب البر والتقوى، ويهيئ الله فيه لعباده فرصاً من الرحمة، تفتح أبواب التوبة للعائدين، والمغفرة للمستفيدين الذين يستثمرون فضل الزمان الشريف، كما ورد في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم ومالك والنسائي وأبو داوود "إذا دخل رمضان فتحت أبواب السماء، واغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين"، وفي رواية أخرى "أبواب الرحمة". وفي شهر رمضان ينشط الناس للبذل والعطاء، لأن روحانية رمضان تشعر الصائم بما للآخرين المحتاجين من حقوق في الفضل والصدقة والزكاة وسائر أنواع التكافل والتعاون. ولكن هذه الصورة المشرقة من العطاء والبذل، عندما نتأملها من خلال المنظار الحضاري للإسلام، نجد فيها كلفاً ونمشاً وبقعاً باهتة. 1- كثير من الأغنياء يوقتون أداء زكاتهم في رمضان فإذا جاءهم طالب زكاة قالوا: تعال في رمضان! ويبدو أن هذه العادة تحولت الى نوع من العبادة. إذ أن كثيراً من الناس يفهم الآثار التي وردت في الحث على الصدقة في رمضان على أنها تضاعف الزكاة في رمضان أيضاً اعتماداً على مثل ما خرجه الترمذي عن انس بن مالك رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل "أي الصدقة أفضل"؟ قال "صدقة في رمضان". وهذا فهم غريب للدين، فعلى رغم صحة الأحاديث التي تنص على مضاعفة أجور الأعمال الحسنة في رمضان، بما فيها الصدقة والزكاة، فقد أغفلنا فهمهما فهماً كلياً في اطار الوحدة العضوية للشريعة، بصفتها جسماً متكاملاً كما نص الإمام الشاطبي. ومن خلال فهم الروح الكلية لمقاصد الشريعة يمكن أن يؤسس المهاد النظري لحضارة اسلامية معاصرة توازن بين الثابت والمتحول، وتبني الفروع على الأصول، بنحت فقه حضاري جديد. وقد يقول بعض الناس ان تمام الحول على هذا البعض بنسبة تقل عن 10 في المئة من الناس، أي على افتراض ان تمام الحول يكون عند بعضهم في رمضان وعند بعض في شوال، وهكذا دواليك، ولكن غالب الناس يفعل ذلك اعتقاداً منه بأن دفع الزكاة في رمضان أفضل.، والقول بالأفضلية يرجع الى اعتبارات عدة، فإن كانت الأفضلية للزمان فنعم، لكن دفع الزكاة واجب وليس هناك اذن مزيد أجر لمن قام بالواجب في رمضان، على من قام به في شعبان. وان كان الانسان أخَّر زكاته بعد تمام حولها لينال فضل الزكاة في رمضان، فهذا فهم غريب للدين يؤخر فيه الانسان أداء الواجب عن وقته الشرعي، بحثاً عن مزيد من الثواب. ان الاستشهاد بحديث أو بآية لا يجوز أن يكون بعزل النص عن سياقه العام. من أجل ذلك ينبغي أن نذكر ببعض الاشكالات الناتجة عن جعل الناس رمضان موسماً مركزياً يصرفون فيه زكواتهم وصدقاتهم، مع التذكير بضرورة تجديد فقه الزكاة في المجتمع المدني الحديث الذي كثرت فيه النوازل والمتغيرات وهو ما يدعو الى مراعاة المقاصد الشرعية بربط العمل بالجدوى والنتيجة بالمقدمة. ولا بد من فهم أفضلية المكان أو الزمان من خلال ربطهما بحاجة الانسان، فإذا كان الفقير أحوج الى المال في شهر صفر منه إليه في رمضان، فالانفاق في صفر هو الواجب، وليس الأولى فقط. إن للفقراء حوائج موسمية صارت مرتبطة بالتقويم الشمسي، فالأسرة الفقيرة - في بداية الموسم الدراسي - بحاجة الى مصروفات تعين على تعليم البنين والبنات، وفي الشتاء بحاجة الى أكسية وأغطية تقي من البرد. وكثير من الفقراء يبددون ما يصل الى أيديهم في رمضان فلا يحل صفر إلا وقد صفرت أيديهم. والاسر أيضاً بحاجة إلى كراء المساكن، وتسديد فواتير الكهرباء ونحوها وغيرها. ان نمط الحياة الاجتماعية المستقرة صار يدعو الى طرح اسئلة جديدة: أليس من الأفضل أن يوقت المزكي ميعاد زكاته على هذه الأوقات؟ أم اننا سنظل نفهم أحاديث الفضائل من دون ربط لها بالصورة العامة لاحتياج الناس، ومن دون مراعاة مبادئ علم الاقتصاد الذي يربط الوسائل بالغايات؟ 2- كثير من دافعي الصدقة والزكاة يقطرها في أفواه الفقراء تقطيراً، وكأنها ناقوط القرية أو التغذية في غرفة الانعاش، فلا تكاد تسد رمقاً ولا ترفع عاطلاً من حفرة البطالة، ولا تشفي مريضاً يحتاج الى ما يشتري به الدواء، ولا تمكّن طالباً فقيراً من الاستمرار في علم ضروري. بل انها أحياناً تنمي روح "الشحاذة" في الفقير"، إذ أن بعض الناس يبخل سائر العام، ثم يتدفق في رمضان من دون حساب، فتتحول فئة من الناس الى أيد مبسوطة وعيون ممدودة وأفواه مفتوحة تعتاد الكسل وكراهية العمل واستمرار الاستجداء، وتتقن "ثقافة الشحاذة" وما لها من آليات، وادعاء آفات وعاهات، واستصدار شهادات وإفادات. والناس عندما يعطون الذين لم يتأكدوا من صدقهم يفهمون أحاديث رد السائل على غير وجهها، ويسهمون في صناعة روح السادية في المعطين، بل ان بعض المعطين من الأثرياء يرتاحون لاصطفاف الناس حول مكاتبهم ودورهم في رمضان، حين يتوافدون أفراداً وجماعات، ويسلمون على "العم" ويقبلون رأسه وقد طأطأوا هاماتهم، وعلتهم المذلة والمسكنة وكأنهم في احتفال جنائزي، وكأن هذا "العم" يعطي من ماله، بينما هو يعطيهم حقاً من حقوقهم لا تجوز المنة به ولا الأذى. فهذا المال ليس له - بحسب الشريعة الاسلامية - بل هو لله، والله مالكه الحقيقي قد أمر ببذله "وانفقوا من مال الله الذي آتاكم".وحدد مجال صرفه ليربي الناس على التكافل والتراحم من دون فوقية ولا أنانية. نعم للناس حوائج آنية، وضرورات استهلاكية ذات أولوية، لكن مشاريع الزكاة والصدقة ينبغي أن ينظر اليها على أنها أسلوب أمثل للنهوض بالفرد والجماعة من حفرة الفقر، ولا بد اذن من اعتماد قاعدة تأهيل الفقير حتى يستغني بعونه على اكتساب عمل شريف، وهذا يتطلب ان يتخفف المزكي من نظام توزيع زكاته على شكل "قطرة" تنقط في الحلق قطرات، لا تكاد تخرج الفقير من فقره. وقد يكون هؤلاء الذين يعتادون أخذ "العادة" الرمضانية أقل حاجة من غيرهم، ان المزكي لو نظر كل عام في حالة فقير أو جمع زكاته مع زكاة أخيه أو أصحابه ثم اشتروا بها آلة صنعة لعاطل، أو بنوا بها بيتاً لذي عاهة مستديمة، أو اشتروا بها مكائن خياطة ليتيمات، أو فتحوا بها دكاناً لعامل... لكان هذا الأسلوب أجدى من قطرات الماء التي تقطر في حلق الفقير، وتوقعه في براثن شركات التقسيط التي تجعله كلما حاول رفع رأسه سقط مرة أخرى الى الحضيض. ويغفل كثير من الناس عن أن الأجدى للمتصدق ان يعلم الفقير مهنة صيد السمك بدلاً من أن يتصدق عليه بسمكة. هذه الخطة في أداء الصدقة أو الزكاة جاء بها الاسلام، فقد أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم السائل درهمين، وأوصاه بأن يشتري بأحدهما فأساً وبالآخر حبلاً ويحتطب... هذا هو الأسلوب الأمثل لكي يكتسب الانسان عملاً شريفاً، فصنعة في اليد هي الأمان من الفقر. 3- مع ظهور الدولة الشمولية الحديثة في العالم الاسلامي ينبغي إعادة تركيب الجزئيات في مجال الأوقاف والصدقات والزكوات، ليقوم المجتمع الأهلي بتكميل ما ينبغي تكميله في سياق التكامل بين دور الدولة ودور المجتمع الأهلي مع إعمال قواعد مقاصد الشريعة كقاعدة الأولويات والموازنات. ففي هذا العصر تعطلت منافع كثيرة، وظهرت مصارف جديدة لمنافع مهمة، وتجاوزت حركة التغيير في الحياة الاجتماعية كثيراً من آراء العلماء القدامى واجتهاداتهم. وأصبح من الضروري العودة الى المعايير القطعية في القرآن الكريم والحديث الشريف، وواقع حياة الصحابة أثناء فترة الخلفاء الراشدين. ولا بد من جلاء هذا الميزان، ومعرفة الواقع معرفة صحيحة، من الجوانب كافة، لاعادة بناء جزئيات هذا النظام المالي المهم الذي يتناول كفالة المجتمع الأهلي لما تتركه الدول، مع مراعاة اختلاف القوانين في الدول الاسلامية. وهنا اذن يستطيع المحسن ان يرتب الأولويات في الأمور التي أوصى بها الأجداد، فهل من الضروري حفر بئر إذا كانت الدولة في هذه الناحية قد حفرت بئراً؟ وهل هذا الفقير المنقطع لحفظ القرآن الكريم في مجتمع كثر فيه الحفظة وقل الأطباء والمهندسون، أولى بهذا المال أم هم؟ وهل هذه المدرسة المنشأة لتحفيظ كتاب الله أولى بهذا المال أم هذا المستشفى؟ وهل بناء هذا المسجد في هذا الحي أولى؟ وهل معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" أن لا نوازن بين تعلم الدين والدنيا معاً في نسق واحد؟ وهل معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم "من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة" ان بناء المسجد على الاطلاق أولى من بناء المدارس والمصانع والمشافي والطرق، ام ان قضية الأجر مرتبطة بوظيفة هذا المسجد أو المشفى في اطار الوحدة العضوية للشريعة؟ وهل تعليم الصناعات والزراعات والمهن والحرف، التي يرفع بها الله المسلمين ويعزهم من الذلة والاستغلال، لا يدخل في خيرية التعليم الديني وليس له أولوية في اطار التوازن؟ وإذا أوصى الميت بأضاحي كثيرة، لا يجد الوكيل من يأكلها من الفقراء، فهل من الضروري ان يظل الموتى يحددون مآل مال الله الذي آتاهم في حياتهم ولو تغيرت الأحوال؟ وهل من الضروري أن تتعطل المنافع تعطلاً كاملاً لكي يقال لمن تورط في وقف نخيل كيف يخرج من ورطته؟ 5- ألم يأن لأهل الخير ان يدركوا أهمية العمل المؤسساتي في ادارة الأعمال الخيرية؟ فمهما كان له من النقائص، فإن محاسنه أكثر واخطاءه تقل عبر الزمن، ومع التجريب والمحاولة ينجح المسعى. فجهود الجماعة الواعية أفضل عشرات المرات من جهود الأفراد الواعين فضلاً عن المتخبطين. لقد سبقت أمم الغرب الى كثير من هذه الطرائق، ولا بد للعمل الخيري من أن يستيفيد منها ولذلك مبررات: أ - العمل المؤسسي سيكون واعياً بنظام الأولويات والموازنات أكثر من الأفراد الذين يتلقفون الفتاوى التي تناسب اهواءهم، وقد تكون الفتاوى التي يعتمدون عليها فتاوى فردية حديثة أو قديمة لم تنبثق من رؤية حضارية الى الشريعة، تستوعب المتغيرات وتقدم حلولاً عملية تقدمية لها. ب - والهيئات أقدر على رؤية الحاجات الأساسية لمجتمع من المجتمعات، اذ ستقدم الأشياء الأساسية على الفرعية لبلد أو مجتمع أو دولة. ج - ولا بد ان تشقق طرق لتدوير أموال الصدقات كي تصبح صدقة جارية لا تنقطع، باقامة المنشآت العملاقة التي تدر دخلاً يضمن استمرارها. ويمكن توسيع مفهوم الاحسان وترابطه وتدرجه بتحويل الدين الذي حل على المعسر الى زكاة عليه وتحويل القرض إذا عجز المستقرض عن الوفاء أيضاً الى زكاة عليه، لأن الأخذ بهذه الرؤية يشجع الناس على التكافل ويجنبهم المراباة. 6- إذا جاء رمضان وجدت اعلانات ولافتات في الصحف والمجلات والطرقات عن افطار الصائمين وما فيه من الأجر العظيم، اعتماداً على حديث الحث على التفطير "من فطر صائماً فله مثل اجره". ونحن لا نجادل في صحة الحديث، انما نجادل في صحة التأويل ثم في صحة التطبيق. وسبيلنا في هذا الأمر واحد هو الانطلاق من مركزة الدائرة لمعرفة مناطق التكليف من خلال فهم الشريعة باعتبارها نسقاً متكاملاً يفسر بعضه بعضاً، وفضل كل جزء فيه بحسب وظيفته. وذلك يدعو الى الربط بين الجهد والجدوى، أي الربط المتجدد بين الجزئيات والكليات والأعمال والأهداف والوسائل والمقاصد فإفطار الصائم جزء من وحدة التكافل بين المسلمين، وهذا الصائم الذي ينال الأجر بتفطيره انساناً له صفات خاصة كأن يكون فقيراً يسد جوعه، أو ضيفاً غريباً منقطعاً تؤلف عاطفته. وليست المسألة اذن إطعام أي انسان وإن كان ثرياً غنياً، وهذا الافطار ينبغي أن يكون من دون اسراف. فإذا مددنا الطرف، رأينا موائد كباراً موضوعة على الاسمطة في باحات المساجد، فيها أطعمة متنوعة يأكل منها الناس مختلفون من الفقير ذي الجسد الضامر الذي نحل من الجوع والبؤس الى الضخم البدين الذي لا يكاد يدخل الباب إلا بفتح المصراعين معاً. فهل تطبيق نظام الأولويات والموازنات يجعل لذلك أولية؟ ومفهوم الحديث أدق من منطوقه، فالناس يهتمون بافطار الصائم ويقصرون الحديث عليه وليس الفطور بأولى من السحور، ولا يصح التفريق بين متماثلين إلا بدليل. وهل يحصر إفطار الصائم بمثل هذا الخوان المبسوط في المسجد؟ وهل ينال الأجر بتفطير الأقوياء المكتسبين؟ وهل الأجر محصور بتقديم الطعام؟ أوليس الأولى دفع المال مباشرة للمحتاج ليفطر مع أهل بيته؟ ووضع هذه الموائد في المساجد مسألة أخرى مهمة لا نريد أن نذمها بمصطلحات البدعة ونحوها، ولكنها لو كانت أولى لفعلها الصحابة الكرام. وتحويل ساحة المسجد الى مطعم مسألة فيها نظر لأن المساجد أمكنة عبادة، يلزم أن يكون هواؤها صحياً وفرشها نظيفاً، وقد قال الله "خذوا زينتكم عند كل مسجد"، ونُدب المسلم - ولا سيما اذا كانت حرفته يدوية - الى الاغتسال قبل صلاة الجمعة من أجل تحقيق هذه الطمأنينة. والناس يضيقون بروائح الدهان والسباك وشارب الدخان، فما بالك بروائح اللحوم والدهون والتوابل وقتار الخبز وهي تنبعث من ساحة المسجد! إن الحياة المدنية الحديثة جعلت المطاعم مريحة جيدة، وهناك أساليب عدة لتفطير الصائمين فيها أو في البيوت. ومثل ذلك عشاء الوالدين الذي توارثه الأحفاد عن الأجداد في العصور السابقة، وأصبح عادة متبعة توحي بنشوء بدعة سائدة. ترى أليس باب الصدقة عن الوالدين مفتوحاً؟ وفي الحياة المعاصرة عشرات الأنماط التي يمكن أن يسكلها المتصدق عن نفسه أو عن والديه بشرط أن يربط الوسيلة بالغاية. ومن خلال ذلك نجد أننا نملك طاقة كبيرة من الرغبة في الخير، وأرقاماً هائلة من المال، واننا نرغب في توظيفها بحثاً عن الدار الآخرة ولكن كثيراً منها يذهب هدراً كالماء الذي يساق الى نُقر الرمال، فلا هو بقي في جوف الأرض مخزوناً مكنوزاً لمن يحسن استثماره، ولا هو انتج ثمراً بقدر كمه. ومن أجل ذلك لا عجب إذا سبقتنا اليابان الى التفوق على رغم انها تعرفت على الحضارة الغربية بعد مصر، بل ان موفديها قصدوا مصر للتعلم في بداية العهد. ولا ينبغي ان نتعجب إذا مضى القوم سراعى محملقين في السديم وبقينا نتراجع القهقري لأننا حولنا بواعث النهضة والتفوق والنجاح في الدين الى مضخات تنتج الهمود والجمود ونسبنا كل ذلك أيضاً الى الدين، فصار الدين شماعة للنكوص والحلزونية والصوفية. 7- وأخيراً فإن لدينا تخلفاً دينياً وثقافياً واجتماعياً في مفهوم الاحسان والمعروف، فهناك بشر غير قليل يفهم الاحسان على أنه تكرم وتفضل بل ربما خطر في بالنا ان المعطي صاحب يد بيضاء عليا، وان الآخر صاحب يد سوداء دنيا، وربما بررنا هذا الشعور بالحديث الشريف "اليد العليا خير من اليد السفلى". وفهم الاحسان على أنه تكرم وتفضل ومعروف نوع من ثقافة الأنانية والجشع والاثرة والروح الفردانية. ان صاحب الاحسان في الحقيقة هو الله، والانسان اذ تصدق أو زكى فانما يزكي نفسه ويتصدق عليها. فالاحسان اذن هو القيام بالواجب الطبيعي للانسان، وكما أحسن الله على الانسان بنعمه، عليه ان يحسن بهذه النعم الى الخلق طبارة: روح الدين: 202. وهذا معنى قوله تعالى "واحسن كما أحسن الله إليك"، فإذا قضى الانسان دينه، فعلام يعد نفسه متفضلاً والانسان إذا أقرض لا يقرض أخاه وانما يقرض الله، فقد وصف الله عباده الطيبين بأنهم "اقرضوا الله قرضاً حسناً". وإذا أدى المعطي ما يجب عليه فليس هو أجدر بالشكر من الآخر. فإذا كان المعطي يريد بالاعطاء أداء الحقوق، وإذا كان الآخذ يريد بالأخذ القيام بالواجبات، فما فضل المعطي على الآخذ؟ ولذلك فإن المعنى الثاني للاحسان الذي انتجته الثقافة الاسلامية هو ان الآخذ ليس أقل إحساناً من المعطي، بل ان صاحب المعروف والاحسان يمكن أن يكون هو المستقرض والمستعين والمستدين، لأنه أتاح لأخيه الفرصة الذهبية التي اهتبلها، ولذلك قال الله تعالى "إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم". ومن أجل ذلك فإن الاحسان لم يتشكل بالصورة الدونية الا عندما انحطت الثقافة الاجتماعية التكافلية فانطمرت الحقوق الشرعية الطبيعية، حتى صار أداء الواجب تفضلاً يشكر عليه، وصار أداء الأمانة منة تستوجب التملق والشحاذة والمديح. مع أن القضية في الدين أخذ حق ودفع واجب، وليست مجال تفضل أو تكرم. وما دام المال الذي بين أيدينا لمالك غني فعلينا أن نطيعه في ما أمر وليس لنا الا فضل التذرع بالطاعة فهو الذي أمرنا فقال "وأنفقوا من مال الله الذي آتاكم" وانما أعطانا ليختبرنا، فليس لنا في المال إلا الاستخلاف ولذلك قال "جعلكم مستخلفين فيه" ليختبر حسن تصرفكم.