أراد السيد غازي التوبة "الحياة" - صفحة أفكار - 13/12/1997 ان يكون لحوارنا جدوى ولذلك دعا لتحديد مناطق الحوار وعدم تحميل المقال ما لم يقله والابتعاد عن الاحكام المسبقة. لا اختلف معه حول ذلك ولا أظن ان ردي على رده السابق قد تجاوز تلك الحدود. وما أزعج الكاتب هو محاولتي اظهار ما لا يقوله المقال خدمة لاحكامه المسبقة. فعلى سبيل المثال يرسم صورة متجانسة ووردية لأوضاع الأعراق والأجناس في السلطنة العثمانية، والواقع والتاريخ يقول العكس، لكي يبرر ايمانه بالأمة الاسلامية وينفي عن الفكرة القومية العربية أية مشروعية. في مقالته الأخيرة لم يأت السيد التوبة بجديد فهو يكرر ايمانه بوجود "أمة مكونة هي الأمة الاسلامية" ويضيف "الواقع الموضوعي يشير ايضاً الى انه ليست هناك أمة عربية، انما حاول الفكر القومي العربي تشكيلها ولما يستطع ذلك". ولكي لا نثقل على القارئ بتكرار ما قيل سابقاً سنركز بشكل أساسي على معالجة مفهوم الأمة وسنجد ومعنا السيد التوبة انفسنا في حدود ردي الأول عليه. الأمة، حسب ما يقوله الكاتب، قامت وتكونت وما زالت موجودة لا قبلها شيء ولا بعدها شيء. فالأمة الاسلامية فوق التاريخ وأحداث الزمان ومتغيراته والحل بالعودة اليها وتصحيح الخلل الذي طرأ على مسيرتها منذ انهيار السلطنة العثمانية. منطق الحياة هو التغير والحركة لا الثبات والجمود. الأمم والدول والمجتمعات والعلوم والأديان كانت وما زالت جزءاًمن الحياة الانسانية المتغيرة، هذا اذا قبلنا بوجودنا على الأرض وليس في السماء وفي الواقع وليس في عالم الرغبات والخيال. الأمة والدولة القومية مفاهيم حديثة ولدت في أوروبا من خلال صيرورة فكرية واقتصادية عزعت أسس العالم القديم ومفاهيمه اللاهوتية وسيطرة الكنيسة والدين على العقل والفكر والمجتمع والعلم وحتى الفنون واتنتهت الى تحري الانسان وعقله وحريته في البحث ومحاكمة العالم وظواهره بمنطق العلم الحديث. بالتالي تحول الانسان الى مواطن حر سيد على مصيره ينتمي الى وطن وليس الى قبيلة أو طائفة وتستمد السلطة والدولة شرعيتها وشرائعها منه وليس من البابا ولا الانجيل ولا اجتهادات رجال الدين. لقد ولدت الدولة - الأمة من خلال صيرورة الحداثة المستمرة لقرون في أوروبا - الأمر الذي لم تعشه مجتمعاتنا، وكانت دعواتنا للنهضة واللحاق بالغرب الذي سبقنا ردة فعل على التحدي الغربي أكثر منها تعبيراً عن واقع مجتمعاتنا وتطورنا الفكري والاقتصادي والسياسي. ولذلك جاءت مشاريعنا ونتائجها حالة بين الماضي والحاضر وبين الحديث والتقليدي بين العلمانية والدين. ولهذا كنا وما زلنا، للأسف وكأن شيئاً لم يكن، نتحاور حول الطريق الأفضل، وكما يوجز المفكر عبدالله العروي: انشغل المفكرون العرب، منذ القرن التاسع عشر، بالآخر الغرب: رفضه أو قبوله أو اصلاحه. لنا ان نتحاور ما شئنا حول ماضينا وشخصيتنا واصالتنا ولكن واقع الأمر ليس أمامنا من خيار، كباقي شعوب الأرض، سوى التعامل مع منجزات الحضارة الغربية التي تحولت الى تراث انساني لا يمكن الهروب منه واذا كنا عاجزين عن المشاركة في صنعه سنبقى في صف مستهلكي بضائعه وعلومه وتكنولوجياته. نتمسك بمقولة الأمة الاسلامية والواقع اننا نسير على هوى نموذج الدولة - الأمة الأوروبي سواء بقرارنا وخيارنا أو نتيجة الاستعمار وادخاله عناصر الدولة الحديثة في مجتمعاتنا الأمر الذي عززناه بعد الاستقلال ولا يمكن العودة عنه الى الوراء سواء حكمت البلاد بولاية الفقيه أو أي حزب اسلامي أو قومي وسواء أطلقت عليه الجمهورية الاسلامية أو العربية أو الجماهيرية. يبالغ بعض الاسلاميين في الادعاء وأخذ منتجات الحداثة الغربية ويضيفون اليها لاحقة اسلامية لكي يرتاحوا فيصبح عندنا طب اسلامي واقتصاد اسلامي وبنك اسلامي وعلم ادارة وجيولوجيا اسلامي وعلى شاكلة أمة اسلامية. الأمة الاسلامية كما يراها السيد التوبة، وغيره، هي خلط بين مفهوم الدولة - الأمة والامبراطورية وعهدها الذي قضى الى غير رجعة. فالسلطة العثمانية وقبلها الدولة العباسية والأموية كانت دولاً امبراطورية تضم شعوباً ومجتمعات مختلفة ومسلمين ومسيحيين ويهود وكان معظمها يسعى للتحرر من ربقة تلك الدولة واستبدادها. في السلطة العثمانية كان العربي عربياً والتركي تركياً واليوناني يوناننياً وفي الدولتين العباسية ونالأموية بقي الايراني ايرانياً. اذن الأمة الاسلامية غير متكونة وغير موجودة كأكثر من دين يجمع شعوباً وقوميات مختلفة مثلما تجمع المسيحية كدين شعوباً وقوميات متعددة. اما فشل الفكر القومي في تكوين امة - دولة واحدة لا يعود الى كون الأمة العربية "متشابكة مع كيان أمة اخرى هي الأمة الاسلامية" واما لأسباب تاريخية واقتصادية وسياسية متفاعلة حدت من امكان حدوثها. ايران دولة اسلامية فهل يستطيع التوبة ان يقول انها لا تشكل أمة قائمة وان كيانها متشابك مع كيان الأمة الاسلامية؟ المجتمع الايراني وشخصيته وامبراطوريته وتراثه سابق للاسلام واستمر في الاسلام ومعه ورغم قبوله الاسلام ديناً فلقد انفصل عن الأمة الاسلامية وامبراطوريتها بشكل مبكر وقبل ولادة السلطة العثمانية. الدولة الايرانية المسلمة حالياً، في النهاية هي دولة - أمة على النمط الأوروبي وتتصرف على أساس مصلحتها القومية، كما تراها نخبتها الحالية، أولاً وأخيراً. فمهما تعاونت أو تقاربت الدول المؤمنة شعوبها بالاسلام فلن تستطيع ولن تصل الى تشكيل أمة - دولة. والدعوة لأمة اسلامية هي دعوة لانشاء امبراطورية، ليس غريباً لمن ينطلق من الماضي المجيد ان يسعى للعودة اليه، وبالتالي هي دعوة خيالية خارج التاريخ والواقع لأن ما يجمع المسلمين هو الدين فقط. لقد ولدت باكستان كدولة على أساس ديني بانفصال الجزء الأكبر من المسلمين عن الهند، الا ان هذا الأساس لم يكن كافياً للحفاظ على وحدتها فانقسمت الى بنغلادش وباكستان الحالية. نعم فشل الفكر القومي العربي وتعبيراته السياسية في خلق أمة - دولة واحدة، ولم ندع العكس في السابق، ولكن هذا لا يعني صحة استنتاج التوبة بوجود أمة اسلامية ونفي امكان وجود أمة عربية. يجمع العرب عوامل موضوعية مما يسمح بالقول انهم أمة مجزأة الى دول تطمح شعوبها للوحدة وخاضت بعض دولها تجارب وحدوية واتحادية عدة وخلق معظمها تجمعات اقليمية، بلغغ عددها ثلاثة قبل حرب الخليج 1990، لم يبق منها الا مجلس التعاون الخليجي والهدف تجاوز الواقع القائم. واذا كانت فكرة الوحدة العربية امكانية تستند الى عوامل موضوعية وتفرضها المصلحة ويتطلبها المستقبل فإن فكرة الأمة الاسلامية، بالمعنى السياسي، يوتوبيا لا تستند الى أساس عقلاني. وليس مجال مقالنا هذا مناقشة الفكر القومي وممارسات احزابه وانظمته ويمكن ان يقال الكثير عن نواقصه ومثاليته وعدم اهتمامه بالمجتمع والانسان ومصادرة الحقوق السياسية وتقديس بعضه لفكرة الأمة العربية وجعلها، على طريقة الأمة الاسلامية، فوق التاريخ والاقتصاد والمجتمع والبشر. يمثل موقف السيد التوبة، وكثير من الاسلاميين المعاصرين، حال متطرفة في عدائها للعروبة ويمثل تراجعاً عن موقف السيد التوبة، وكثيراً من الاسلاميين معاصرين ممن لا ينفون وجود الأمة العربية ولا يعتبرون مشروعها الوحدوي خيالاً يجب محاربته وانما خطوة على الطريق ولعل كلمات مؤسسة حركة الاخوان المسلمين تكفي كاتبنا حيث يقول "ومن هنا كانت وحدة العرب أمراً لا بد منه لاعادة مجد الاسلام باقامة دولته واعزاز سلطته". يعتبر الكاتب "وجود الأمة شرطاً ضرورياً لأي اختبار تطوير أو تحديث" بينما الواقع والتاريخ يقول ان الأمة - الدولة ولدت عبر صيرورة أربعة قرون من الزمن ولم توجد بقرار. وجود الأمة لا يكفي حتى لو اتخذت قرارها وحددت خيارها. الصين وروسيا أمم موجودة ولا يتشابك كيانها مع الدين مع ذلك لم تنجح باللحاق بالغرب المتقدم الذي سبقها كما سبقنا. قرار التحديث وبثورة من فوق تفرض على المجتمع واجتزاء الحداثة، على غرار مشروع محمد علي وبطرس الأكبر ثم الثورة البلشفية، يسير خطوات ويحقق بعض التطوير ويتعثر. تبني الحداثة ككل، خصوصاً محتواها العقلاني والعلماني،پخطوة على الطريق ومن دون ذلك يغيب دور المجتمع ويفتح الباب أمام الاستبداد السياسي وتكون النتيجة تطوراً ناقصاً وهشاً لا يمكنه الصمود امام متناقضاته الداخلية ولا أمام العوامل الخارجية. دون تبني الحداثة ومحتواها العلماني سنبقى أعضاء في قبائل وطوائف لا مواطنين نعيش في الماضي لا الحاضر وغير قادرين على المحافظة على الدولة التي ورثناها بعد الاستعمار والتي تنوء بأوضاع متفجرة سياسية واقتصادية واجتماعية في العديد من الدول العربية. رفض الحداثة بادعاء الحفاظ على الأصالة لن ينقذنا من اجتياح العالم الحديث وبضائعه وعلومه وأفكاره وتكنولوجياته فالعزلة مستحيلة حتى لو أردناها، لقد تداخل العالم بحيث أصبح العزل عقوبة تمارس بحق العديد من دولنا. في البداية لم نذهب الى الغرب وانما جاء الينا ببضائعه واقتصاده وعلومه ثم بأسلحته واستعماره ومتؤسساته ومنذ الاستقلال ما زلنا نبحث عن التكنولوجيا والعلم والقروض لدى هذه الدولة أو تلك. بغض النظر عمن يقف على رأس السلطة ليس هناك من طريق سوى طلب العلم الحديث والتكنولوجيا حيث وجدا. فلا يمكن الهرب من الحداثة ولا يمكن تجزئتها على هوانا لأن الطريق لتجاوز منجزات علمية لا يمكن الا بممارسة ومعرفة العلم في عصرنا وعندما نتحول الى منتجين ومبدعين في هذا المجل يمكن لادعاءنا بالأصالة ان يبرهن على ذلك. الأصالة والتراث أقوى مما يظن حاملو رايتها فالحداثة ستجعلهما جزءاً من الحاضر متفاعلين مع الحركة التاريخية لمجتمعاتنا وهنا تبرز الأصالة وتقدم تجربتها للعالم. فالهدف المعقول ليس خلق امبراطورية تعيدنا للماضي وتفرض وجودنا على العالم وتنتقم لماضينا وحاضرنا وانما السعي لأمة عربية حديثة تشارك في بناء حضارة انسانية مع الأمم والشعوب.