يعتبر البروتوكول الطبي غرفة العناية المركزة وما تستضيفه وتستقبله من حالات طارئة شأناً داخلياً يخص المعنيين به مباشرة، الا ان الطبيب السعودي عبدالوهاب الجياب الذي شارف على الانتهاء من برنامجه التخصصي في الجراحة العامة لدى مستشفيات جامعة "ميغيل" في مونتريال خص "الحياة" بوصف وجداني لما حدث خلال أحدى فترات المناوبة الليلية. ولا بد من الاشارة هنا الى ان الحادثة التالية التي تشكل جانباً مهماً من منهج التدريب العملي المعتمد من قبل الجامعة المذكورة، هي واحدة من اللحظات الدقيقة التي لا شك مر بها بضع مئات من الأطباء السعوديين الذين قدموا الى كندا لغرض التخصص الجراحي ضمن برنامج ابتعاث طموح تموله حكومتهم من الفه الى يائه منذ انشائه قبل نحو 15 سنة. وقال عبدالوهاب: "نحو الثالثة صباحاً استقبلنا في غرفة العناية المركزة حالة طارئة. كان المريض اجريت له عملية قلب مفتوح لتغيير أحد الصمامات المعطوبة وتوصيل الشرايين، وخلال فترة النقاهة توقف قلبه عن الخفقان فجأة وانقطع نبضه كلياً من دون ان يكون هناك فرصة لاجراء تدليك خارجي بسبب حداثة العمل الجراحي، وبما اني كنت المسؤول الأول عن المريض كان لدي أحد خيارين: اما الاتصال بمن هم أكثر مني خبرة في منازلهم وانتظار قدومهم بعد فوات الأوان، أو المبادرة باجراء عمل جراحي خارج غرفة العمليات". وأضاف: "لكن خطورة الحالة استوجبت الخيار الثاني، وفعلاً قمت بما يلزم واجريت عملية تدليك قلب مفتوحة ونجحت العملية بعون الله". وهذه الواقعة، التي جاءت في مرحلة مبكرة من برنامج تخصص جراحة عامة مدته خمس سنين وبدأه عبدالوهاب منتصف 1993، لا تحتاج الى أكثر من الاشارة الى ان عملية استعراض الخيارات واتخاذ القرار المناسب على رغم ما فيه من مخاطرة، استغرقت ثوان معدودات وهو أمر غاية في الأهمية ويضاف بالتأكيد الى رصيد الطبيب المتدرب اذ ان دماغ المريض الذي يتوقف قلبه عن الخفقان لا يستطيع الصمود بلا دفقات جديدة من الدم والأوكسجين لأكثر من دقيقتين. وخلال الفترة الماضية تدرج عبدالوهاب بنجاح من طبيب جراح تحت التدريب أو ما تصفه جامعة ميغيل بپ"طبيب مقيم" الى طبيب مقيم أول وتشمل مهامه في الوقت الراهن الاشراف على عمل الأطباء المقيمين والقيام بمهام حلقة الوصل بين المستجدين والطاقم الاستشاري المسؤول عن البرنامج التخصصي، وحين التقته "الحياة" في منزله في مونتريال بداية الأسبوع الجاري كان عاد للتو من المستشفى وحالة جديدة من حالات الطوارئ التي تشكل جانباً مهماً من برنامجه التخصصي. وروى الطبيب السعودي تفاصيل الحالة: "استقبل قسم الطوارئ امرأة مسنة تعاني آلاماً مبرحة في البطن، وقام الطبيب الكندي المناوب بتشخيص هذه الآلام على انها حالة زائدة دودية، وعندما وصلت الى المستشفى وأخبرت ان المريضة بحاجة الى جراحة لاستئصال الزائدة ساورني الشك بسبب عدم تطابق نتائج التشخيص مع علامات المرض وصدقت ظنوني اذ كشف الفحص الاشعاعي سلامة الزائدة وان سبب الآلام يعود فعلياً الى اصابة جزء من الأمعاء الدقيقة بالتعفن نتيجة حرمانه من الدم مما هدد المريضة بالتسمم والوفاة ما لم يصار الى اعطائها العلاج الصحيح في الوقت المناسب". ويرى عبدالوهاب فيما حدث أكثر من مغزى: "لا شك ان أموراً من هذا النوع تنعكس على المرء ايجاباً سواء لجهة نظرته الى نفسه أو نظرة الآخرين اليه، فيدركون ان الأطباء المبتعثين اناس جديون واننا جئنا الى هنا من اجل التعلم وحققنا أكبر قدر ولا أقول أقصى حد من الاستفادة من علمهم بحيث صار بمقدور المرء ان يتجاوزهم في العلم". وفعلياً تشير سجلات التخصصات الجراحية في جامعة ميغيل الى ان المبتعثين السعوديين يحققون درجة عالية من التفوق ولا تخلو دفعة واحدة من طبيب سعودي في مراكزها الأولى. وفي مجال الأبحاث حصل الطبيب السعودي وديع بن صديق على المركز الأول على مستوى كندا سنة 1995 عن بحث قام به في مجال عمليات نمو الرئة عند الأجنة البشرية وجرى تكريمه من قبل "الكلية الملكية الكندية للأطباء والجراحين" ومن قبل المؤتمر السنوي للجامعات الكندية. ومن دون التقليل من أهمية الجهد الشخصي لفت الدكتور غازي المكي الملحق الثقافي لدى السفارة السعودية في أوتاوا الى ان خريجي كلية الطب السعوديون يأتون الى كندا وهم يمتلكون مستوى راقياً من التأهيل يمكنهم من استقبال المراجعين منذ اليوم الأول بشهادة المشرفين على البرامج التخصصية في مشافي الجامعات الكندية، وأضاف في مقابلة سابقة مع "الحياة"، "هناك اعتراف واضح ان طالب الدراسات العليا السعودي هو بمستوى الطالب الكندي ان لم يكن أفضل". الا ان عبدالوهاب تحدث بحماسة ملفتة عن تفوق المبتعثين السعوديين لأسباب عدة أبرزها ان هذه النجاحات تحققت في بلد يحتل في رأيه قمة الهرم الطبي على المستوى العالمي لا سيما في مجال التخصصات الجراحية وطب الأطفال، وأشار في الوقت نفسه الى ان "الانطباع الجيد" الذي عاد به الخريجون الأوائل كان أحد الأسباب التي جعلته يختار البرنامج الكندي. ويشار الى ان عدد الخريجين السعوديين الذين أنهوا دراساتهم التخصصية في الجامعات الكندية منذ توقيع اتفاق تعاون مشترك بين السعودية وكندا في مجال التعليم العالي سنة 1982 بلغ زهاء 650 خريجاً. وهناك في الوقت الراهن نحو 300 من المبتعثين الجدد المنتظمين في برامج دراسات عليا في كندا غالبيتهم في التخصصات الطبية والجراحة. لكن مما لا شك فيه ان التحصيل العلمي في بلد اجنبي مثل كندا ليس مجرد القدرة على التفوق في مجال التحصيل العلمي بل هو تجربة متكاملة يدخل في اطارها الواسع كماً من المعاناة والتحديات الناجمة عن الاختلاف في الكثير من المفاهيم والدين والعادات والتقاليد فضلاً عن الاحساس القاسي بالغربة، خصوصاً بالنسبة للمبتعثين السعوديين الذين يحرصون على اصطحاب عوائلهم وأطفالهم. وحاولت "الحياة" نقل جانب من هذه التجربة في حوار صريح مع عبدالوهاب: البداية التقليدية لماذا اخترت التخصص في كندا؟ - الأمر يعود الى من سبقونا في برنامج الابتعاث فحين عاد الخريجون الأوائل للعمل في مستشفى الملك فيصل والمستشفى العسكري في الرياض، حملوا معهم انطباعاً جيداً عن الدراسات التخصصية في كندا. وكلمة عن طبيعة البرامج التخصصية؟ - بالنسبة للتخصصات الجراحية يتألف البرنامج من منهاج جراحة عامة مدته خمس سنوات يتبعه التخصص الدقيق. وتنقسم الدراسة الى تدريب عملي بما نسبته 99 في المئة من المنهاج والباقي محاضرات نظرية يقوم الطلاب باعدادها والقائها. وبالتالي يمكن وصف التحصيل بأنه تلقائي أو ذاتي. وما هي أهم مميزات برنامجك التخصصي فيما يتعلق باكتساب الخبرة؟ - في الحقيقة يتوقف الأمر على الطالب نفسه. في الغالب فرصة اكتساب الخبرة متاحة للجميع لسبب بسيط وهو ان النظام المتبع في جامعة ميغيل يعتمد أساساً على الطالب اذ هو الذي يستقبل المريض وهو الذي يأمر بادخاله الى المستشفى وهو الذي يقرر له العملية، اما المسؤول عن البرنامج فينحصر دوره في الاشراف فقط، داخل وخارج غرفة العمليات. وبالتالي لو كان الطالب غير مهتم أو غير مجد فلن يكتسب قدراً كافياً من الخبرة. وفيما يتعلق بالمميزات، يمتلك الكادر الأكاديمي مؤهلات عالية وعمر البرنامج عندهم زهاء مئة سنة، ما يعني ان لديهم خبرة نظرية وعملية في كيفية ايصال المعلومة وفيما يحتاج اليه الطالب في المراحل المختلفة وهو أمر في غاية الأهمية، يضاف الى ذلك ان الكادر التعليمي يضم علماء وباحثين مشهورين. ومعلوم ان غالبية الكتب والمجلات الطبية تصدر في كندا وأميركا، ومن هم الكتاب؟ المدرسون بالطبع، ومؤكد ان تلقي المعرفة من مكتشفها مباشرة أفضل من تلقيها من طريق وسيط. وهل تعرضت خلال دراستك لتجارب اعتبرتها سلبية؟ - لا يخلو الأمر. في احدى الليالي أحضر شاب من أصل عربي الى المستشفى بعد تعرضه لحادث مروري شنيع ادى الى اصابته بتمزقات نازفة في الرأس والصدر والأمعاء والكبد، وقرر طبيب الأعصاب الكندي ان لا أمل في انقاذ المصاب وبنى قراره على أساس ان اصابة الرأس كانت بالغة لدرجة لا يرجى معه الشفاء. وبناء عليه أعيد الشاب الى غرفة الطوارئ من دون المرور بغرفة العمليات. ومع وصول الأطباء الاستشاريين في الصباح قام أحدهم بالكشف على المصاب وتبين له ان قرار طبيب الأعصاب لم يكن صائباً وان اصابة الرأس كانت بسيطة وقابلة للعلاج، وعلى الفور أرسل الشاب الينا في غرفة العمليات حيث قمنا بمعالجة الجراح وايقاف النزيف في الصدر والامعاء، ولكن بعد فوات الأوان. وكيف تقيم هذه التجربة؟ - أولاً أود ان أشير الى ان الكنديين يمثلون قمة الهرم الطبي على المستوى العالمي وحتى على مستوى أميركا الشمالية، ولكن كان لهذه التجربة أثر سلبي بلا شك. ومع ذلك هناك دائماً درس يتعلمه المرء، ولو تكرر الحدث فقد لا أسلم كما سلمت في المرة الأولى. وبصراحة القول، هم ماديون، والمادة تطغى على قراراتهم، وكمثال لو كان عندهم مريض مصاب بالسرطان وتعرض فجأة لانسداد في الامعاء فلا شك ان السرطان سيدخل في أي قرار خاص بانسداد الامعاء. اما نحن فلا نفكر بهذه الطريقة، بل نسارع لمعالجة انسداد الامعاء بغض النظر عن الفترة التي سيعيشها المريض، فهذا في علم الغيب. في ظل هذا الخلاف في المفاهيم، ما هي فرص انشاء برامج تخصصية في السعودية؟ - تجربة الدراسات العليا بدأت على نطاق محدود في السعودية قبل نحو خمس سنوات بمبادرة نشطة من جانب أوائل الخريجين. ورغم ان هذه التجربة لا زالت في بدايتها وتنحصر في أمراض البيئة اعتقد ان في مقدور السعودية اقامة برامج تخصصية تشابه البرامج الكندية وربما تفوقها في بعض التخصصات، اذ البنية التحتية المطلوبة بعناصرها الرئيسية الثلاث، أي الهيئة التدريسية والمستشفيات والمرضى، متوافرة. وماذا عن التخصصات الأخرى؟ - التخصصات الأخرى تحتاج الى عناصر ليست متوافرة تماماً في بيئتنا. قبل مجيئي الى كندا مارست الطب لمدة ثلاث سنين، وما كان ينقصنا في المستشفى الذي كنت أعمل فيه هو نوعية الحالات. كنا نستقبل الحالات الجراحية العامة وهي في غالبيتها بسيطة، ولكن حين نأت الى الجراحات الكبيرة مثل السرطانات وعمليات المريء وزراعة الأعضاء فهي موجودة ولكن بأعداد قليلة. ويعود السبب في ذلك الى ان متوسط الأعمار في مجتمعنا لا زال تحت الثمانين سنة. اما في بلد مثل كندا فالحال هو العكس تماماً حيث توجد الجراحات الكبيرة بدرجة خيالية. وكيف تصف تجربتك الشخصية في كندا؟ - هناك بلا شك اختلاف كبير جداً بين مجتمعنا والمجتمع الكندي لكن ليس لدرجة التأثير على الشخص، خصوصاً من يملك القدرة على التأقلم. هناك أناس تعودوا على المصاعب وبالتالي ليس هناك مشكلة، وهناك آخرون اعتادوا ان تكون الأمور مسهلة لهم. فحين ينتقلون فجأة الى عالم غريب ربما ينتهون الى الفشل. ويحدث ان يأت شبان سعوديون، وغير سعوديين، فيمضون شهراً أو سنة ثم يحس الواحد منهم انه غير قادر على الاستمرار، ويفشل فعلاً ليس لعجز عن التحصيل العلمي بل لعدم القدرة على التأقلم. هناك مصاعب كثيرة ولا بد من ايجاد وسيلة للتغلب عليها. بالنسبة للطالب هناك مثلاً صلاة الجمعة اذ لا يمكن التغيب عن التدريب كل يوم جمعة. اما بالنسبة للأهل الزوجة فهناك أيضاً معاناة بسبب الاختلاف في العادات والتقاليد اذ في السعودية أمور الأهل ميسرة جداً ودورها واضح ومعروف، في حين يختلف الأمر هنا. وكذلك بالنسبة للأطفال اذ هناك اختلاف كبير في طريقة التعليم، والتشرب الديني للاسلام ليس موجوداً ويجب عدم نسيان هذا الجانب فهو مهم جداً لا سيما والأطفال مستقبل البلد ولهم الحق في ان يتعلموا وان ينشأوا النشأة الاسلامية الصحيحة. وهذه ليست دعوة للانغلاق على المجتمع الذي ندرس فيه اذ بامكاننا اكتساب الكثير مثل اللغة والمنهجيات الثقافية، وفي المقابل التمسك بديننا ومفاهيمنا وأخلاقنا. وما هي التسهيلات المتوافرة لكم في كندا؟ - بالنسبة للبرامج الكندية ليس هناك تسهيلات من أي نوع، فأنت طبيب داخل المستشفى، أو خارج المستشفى فلا دخل ولا علاقة لنا بك. في المقابل تقوم الحكومة السعودية بتمويل برنامج الابتعاث من ألفه الى يائه، وفوق هذا فهي تحاول قدر المستطاع ان تساعدنا في جميع النواحي، فهناك مثلاً وظيفة محفوظة لك حين ترجع الى بلدك، وهناك الراتب والتذاكر السنوية، وهناك أيضاً مدارس سعودية لتعليم الأطفال اللغة العربية والدين في العطلة الأسبوعية وهذا يخفف عنا المسؤوليات ويشعرنا ان مستقبل أولادنا في أمان.