لم تكن شعبية رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان في المنطقة العربية ذات وزن يذكر قبل العام 2009. في ذلك العام دخل (الرجل الإسلامي الذي يرأس دولة علمانية) أروقة منتدى دافوس الاقتصادي وهو غير موجود تقريباً في وعي الجماهير العربية، وغادر المنتدى محمولاً على رأس الذاكرة العربية ومتربعاً فوق امتنانها وشكرها! ارتفعت شعبيته عربياً من منطقة الصفر تقريباً إلى مستوى لم يصل إليه أي زعيم تركي سابق. خرجت الجماهير العربية في الشوارع تهتف بمجده ولمجده، وصار اسمه قريناً لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي في خطب الجمعة على منابر المساجد العربية، وتلقفت الثورة الإلكترونية العربية الناشئة هذه الفرصة العظيمة فوضعته في منازل الصديقين والشهداء. ماذا فعل أردوغان في دافوس ليفوز بهذا الصيت والمجد العظيمين؟ احتج على عدم عدل مدير الندوة التي جمعته بالرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز، كون هذا المدير الذي لا يفهم كثيراً (بحسب العتب) في البروتوكول السياسي والأعراف الديبلوماسية، أعطى بيريز وقتاً للحديث يفوق الوقت الذي فاز به أردوغان بمقدار الضعف! ارتفعت بعد هذا الموقف (البطولي العظيم) شعبية الرجل الإسلامي الذي يرأس دولة علمانية، ما جعله يُصاب بصدمة تعجب واستغراب لم يشف منها حتى الآن، لكن هذا الصعود الحاد والسريع لم يصل إلى درجة الإيمان المطلق به كزعيم (إسلامي) مطلق، لذلك كان لا بد من موقفٍ ثانٍ يدعم هذه الشعبية ويرفع من أسهمها. الموقف الأول كان موجهاً ضد إسرائيل التي يُثير الحديث عنها سلباً أو إيجاباً عاطفة اليعربيين المتأخرين، لكن مناسبته كانت في دافوس، الأرض البعيدة بعض الشيء عن الحمى العربية، لذلك كان المبدآن المهمان اللذان ارتكز عليهما التفكير في الموقف الثاني يتمثلان في اختيار إسرائيل خصماً استراتيجياً لا محيص عنه، خصوصاً أنها تقابل التفجيرات الكلامية في العادة بردود أفعال هادئة ومصالح تجارية لا تنقطع، وضرورة وجود ملعب قريب للمركز العربي يضمن وصول صوت أردوغان في شكل أوضح وأسرع، وهذا ما كان فعلاً، فقد استغل الرجل الإسلامي الذي يرأس دولة علمانية مهاجمة الجنود الإسرائيليين سفينة الحرية التركية بالقرب من الشواطئ العربية، وصار يهدد ويتوعد الإسرائيليين من جهة ويربط غزة والقدس بأنقرة واسطنبول من جهة أخرى. هذا الصوت العالي تجاه إسرائيل ومشاعر الاحتواء (حتى وإن كانت كولونيالية) للجماهير المضطهدة، لم تتعودهما الشعوب العربية في العقود القليلة الماضية، ما جعل شعبية الرجل الإسلامي الذي يرأس دولة علمانية ترتفع مجدداً في شكل صاروخي، منذرة بتجاوز الطبقات العُلى من ارتباط الشعوب الإسلامية بقادتها عبر التاريخ، لكن ذلك أيضاً لم يكن كافياً لزرع مفهوم الإيمان المطلق بالزعيم المطلق في الذهنية العربية. السبب الثالث الذي جعل شعبية أردوغان تصل إلى القمة يتمثل في موقفه (الصوتي) الداعم للثورات العربية في اليمن وسورية ومصر وتونس وليبيا، ودعوته الحكام العرب إلى ترك كراسيهم لأنهم (فانون في دنيا فانية)، ففي الوقت الذي اختار الزعماء العرب البعيدون عن الثورات الركون إلى صمت السلامة أو سلامة الصمت، رفع أردوغان صوته داعماً مطالب الجماهير العربية المظلومة ومنحازاً لها ضد حكامها، وهذا الأمر تحديداً أحيا في نفوس الكثير من العرب هيبة الخلافة العثمانية ومواقفها التاريخية وعزتها التي كانت تستمدها من الوقوف موقف الند والخصم من القوى العالمية في عصرها، ودفن كذلك في ذاكرتهم ما كانت تفعله الخلافة نفسها من تهميش وإقصاء للجنس العربي لمجرد كونه جنساً عربياً! ورفع أردوغان إلى منزلة الزعماء التاريخيين للأمة الإسلامية الذين لا يأتيهم الباطل من بين أيديهم أو خلفهم. ثلاثة أسباب غيرت قوانين اللعبة، أولها كان انتصاراً للنفس، وثانيها كان انتصاراً لشهداء أتراك، وثالثها كان إفرازاً للغياب العربي! ثلاثة أسباب طارئة ليس للعرب حظ منها عملياً، جعلت من الرجل الإسلامي الذي يرأس دولة علمانية بطلاً كبيراً ورمزاً عظيماً في المخيلة العربية العطشى للتعاطف والمؤازرة. نتائج هذه الأسباب الثلاثة دعت الزعيم الإسلامي المطلق الجديد بحكم الأوضاع والصدفة التاريخية، إلى حمل صيته وسمعته و200 من التجار الأتراك والتوجه بهم إلى دول الربيع العربي، ليعرض عليها مشاريع اقتصادية تضمن لحزبه البقاء في السلطة أعواماً عدة مقبلة، وليدعوها إلى اتباع المنهج التركي في الحكم لتكون تحت جناح العثمانيين الجدد، الذين اختاروا أن يكونوا عثمانيين (فاتحين) في هذا الوقت تحديداً رداً على طردهم من الجنة الأوروبية! جاء إلى مصر مزهواً وكأن له الدور الأكبر في تفجير العزة والكرامة في نفوس الجماهير المصرية، وقابل المصريون زهوه باستقبال شعبي حافل، لكن الرجل الإسلامي الذي يرأس دولة علمانية فاجأ الجمع المحتفل، نخباً وجماهير، بالدعوة إلى تحويل مصر إلى دولة علمانية يحكمها رجل مسلم اقتداءً واتباعاً للتجربة التركية، وهكذا فعل في تونس وليبيا. الدعوة هذه ضربت مركز العصب في التجمعات الإسلامية والعلمانية على السواء، قاطعة حبال وصل الإسلاميين موقتاً بالمنهج التركي الذي كان قبل أيام قليلة فقط أنموذجاً رائعاً للحكم الإسلامي في المنطقة، وزارعة الربكة في صميم منهج العلمانيين الذين كانوا متحفزين وخائفين من نتائج هذه الزيارات، إذ كيف تزدهر العلمانية تحت ظل حزب ديني؟ جاء أردوغان إلى دول الربيع العربي تسبقه سمعته وصيته، وغادرها يسحب خلفه غضب الإسلاميين وسخرية العلمانيين. جاء خليفة عثمانياً وعاد إلى بلده رئيساً مسلماً لدولة علمانية. كان أردوغان سيكبر أكبر في المخيلة العربية اعتماداً على الأسباب الثلاثة السابقة، لو تعامل مع الموقف العربي الجديد بانتهازية تتناسب مع التغيرات الاجتماعية والسياسية في المنطقة، لكن مشكلته الوحيدة والكبيرة وخطأه العظيم أنه كان خلال زيارته لهذه الدول الثلاث يفكر طوال الوقت بردود الأفعال الأوروبية حول جولته في أقاليم الخلافة العثمانية، الأمر الذي جعله يخلط الحابل الأوروبي بالنابل العربي في جملة واحدة: العلمانية والإسلام هما الحل!! * كاتب وصحافي سعودي