تأملت احتفال أهالي من ماتوا في تفجيرات 11 سبتمبر في أرض البرجين بنيويورك وبعد مرور عشر سنوات على الحدث، شعرت بغصة وألم، سنوات تعاقبت ولم ينسوا أرواحهم، فمن لقن الطفلة ذات العشر سنوات أن أباها أو أخاها أو أمها أو أختها، من لقنها أن هؤلاء لا يزالون القطعة المفقودة في صورة عائلتها؟ فهذه الطفلة لم تختبر مشاعرها مع من قضى نحبه تحت أنقاض البرجين ولكنك تراها تحمل صورته وتلوح بها لتعرضها أمام العالم، فكيف تتذكر؟ أيكون أن هذه الطفلة قد عاشت سنواتها العشر وتغذت على فكرة تقدير من مضى، تماماً كما لو أنه عاش معها ولم يمض؟ أيكون أن هذه الطفلة تشبعت الحنين إلى روح من فاتها فترجمته بإحياء ذكراه؟ ثم، وكل هذا الاهتمام على ماذا يدل؟ أيكون على قيمة الإنسان في حياة من ننعتهم بالكفرة، وحين نصفهم بالكفرة، فماذا نكون؟ المؤمنون حقاً، حسناً جداً، فلننظر إلى المؤمنين في عالمنا الإسلامي وكيف يفهمون قيمة الإنسان وحقوقه على طريقتهم الإيمانية، والله قهر. ما تمر به أوطاننا كشف عن قبحنا الداخلي، فحين نزعنا غطاء الحاكم، هل ظهر المحكوم بأفضل منه؟ نفوس هشة وخائفة، جائعة ومحرومة، قاسية ومستنفرة، تتخبط في كل الاتجاهات، فهل ستشهدها بعد عشر سنوات قادمة وهي تحيي ذكرى من مات لها اليوم؟ هل ستجد طفلة العشر سنوات تناجي من رحل عنها فتحمل صورته وتدعوه بالقطعة المفقودة؟ ليس متوقعاً، فهذه معان أكبر منا ومن وعينا بقيمتنا، هذه معان لم تزرع فينا ولم نتعرّف عليها ولا أظننا سنفعل، على الأقل في دورة هذه الحياة لهذا الجيل، فإلى يومنا لا نؤمن بأساسيات الضمير، فلا شرف أخلاقي، ولا ثقافة إلاّ «الفهلوة» ومن أين تُؤكل الكتف، حتى سُلخت جلودنا وذابت لحومنا، ولم تبق غير هياكل عظمية بجماجم تجوفت عيونها ولا سيرة لنا إلا الكرسي ومن يجلس عليه، والله قهر. وحتى إن كنت في عالمنا الإسلامي صاحب ضمير، فمعاناتك أكبر، فمن الطبيعي حين تكون ملتزماً بالقوانين والانسانيات تؤدي ما لك، أن تأخذ ما عليك، فهل تجري الأمور على هذا المنوال؟ أبداً، بل تُستهلك وتُستنزف وتُصدم في قناعاتك وأشياء أخرى، فتخسر من نفسك ما كنت تظن أنك قادر على الاحتفاظ به، فتصحو ذات نهار أغبر وإذا بغريب عنك يسكنك، يتحدث بصوتك ويستعمل أعضاءك ولا يؤمن بك، وعليك أن تجاريه، فهو من يقودك إن كنت واهماً، وهكذا تجري! مُقاد لا تعرف إلى أين! تعيس لا تعرف متى ترتاح! فهل تكون بلادنا مقابر جاهزة للموت؟ فمن يقيم في مقبرة ويحتفظ بتفاؤله؟ تطالب بحريتك! فما جدواها بلا مسؤولية؟ ما نفعها وأنت المنهار أخلاقياً؟ ولا أدري ما يكون الإنسان بلا أخلاق، بلا وازع، سوى عبء على البشرية، بجمادها وإنسانها وحيوانها، فنحن من قتلنا أنفسنا قبل أن يقتلونا، والله قهر. نجيد لعبة المكابرة، ونعشق رواية الضحية، فكيف لو نطقت المجالس بما سمعت وانتقل اللعب على المكشوف؟ والمدهش أن المنافق هو من يبادر بنقد النفاق، والفاسد هو من يبادر بالشكوى من الفساد، وكل آفة وتجد صاحبها يتبرأ منها، وكأنه لم يكن جزءاً من قذارة إنسان، وليس سبباً فيما آل إليه الوطن من شظايا؟ والمدهش أكثر أن كل نشاط خطر ويكلف المرء، فلِمَ لمْ يصرف ذاك الجهد وتلك الفاتورة في الطريق الآخر؟ أيكون العائد المادي أقل؟ ليس بالضرورة، وإن كان فليكن، ألا يستحق احترام المرء لذاته وهدوء باله وضميره هذا النوع من التنازل، ولكن ما لجرح بميت إيلام، ويبقى الشرفاء غرباء في أوطانهم، وإن هاجروا فهم الوافدون إلى أوطان غيرهم، فأين الوطن؟ وكيف لروح لفظها وطنها أن تغادر جسدها فلا ترحل قهراً؟ والله قهر. [email protected]