خلال أعمال الشغب الأخيرة في لندن ومدن انكليزية أخرى، برز انفلات مخيف فيما راح شبّان يتصرفون بوحشية ويعتدون على الناس وينهبون المباني ويحرقونها. وقُتل خمسة أشخاص بمن فيهم ثلاثة رجال مسلمين في مدينة برمنغهام بعدما صدمتهم سيارة كانت تجري بسرعة فائقة فيما حاولوا إلى جانب مسلمين آخرين حماية شوارعهم من المشاغبين. في بداية المطاف، لم تحرّك الشرطة ساكناً لأنها كانت عاجزة عن ضبط الوضع. ولم تتمكن من إحكام السيطرة على ما يحدث في لندن إلا بعد أن رُفع عدد رجالها من 6 آلاف إلى 16 ألفاً. وتدور اليوم نقاشات محتدمة وحادّة في أوساط السياسيين ورجال الشرطة والمحاكم ووسائل الإعلام والمجموعات المعنية بالحقوق المدنية والرأي العام البريطاني حول أسباب اندلاع أعمال الشغب وحول الخطوات الممكن اتخاذها من أجل ضمان عدم تجدّد حصول أحداث مماثلة. أدّت أعمال الشغب إلى طرح أسئلة لمعرفة الخلل الموجود في المجتمع والثقافة البريطانية والذي أدى إلى نشوء طبقة من الشبان الخارجين عن القانون وغير المجدين والعنيفين إلى حدّ أنهم مستعدون لمهاجمة المواطنين ونهبهم وسلب المتاجر وتدمير المجتمعات المحلية. واندلعت أعمال الشغب عقب إقدام شرطي على قتل الرجل الأسود مارك دوغان (29 سنة) في منطقة توتنهام في شمال لندن. كما اندلعت أعمال الشغب في مدينة توتنهام بعدما أخفقت الشرطة واللجنة المستقلة لشكاوى الشرطة في تقديم تفسير كامل لعائلة دوغان في شأن مقتل ولدها. إلا أنّ المشاغبين لم يأتوا على ذكر مقتل مارك دوغان فيما كانت أعمال الشغب تنتشر في المناطق الأخرى. في آب (أغسطس) 2011، كانت أعمال الشغب مختلفة عن تلك التي حصلت في السابق في بريطانيا. فلم تكن مرتبطة بالعرق. وأشار رئيس الوزراء ديفيد كامرون إلى أنّ المشاغبين كانوا يضمون في صفوفهم أشخاصاً سوداً وبيضاً وسمراً. ولم يطلقوا مطالب محدّدة ولم يرفعوا شعارات أو لافتات. وتمّ التركيز على نهب العلامات التجارية القيّمة مثل أجهزة التلفزيون والهواتف وأحذية التدريب الأنيقة وثياب الشباب. ووصف البعض أعمال الشغب بأنها «تسوّق بعنف» أو «أعمال شغب استجمامية». واستخدم المشاغبون وسائل الاتصال الاجتماعي مثل موقعي «فايسبوك» و «تويتر» وخدمة «ماسنجر بلاكبيري» من أجل المساعدة في انتشار أعمال الشغب والنهب. وأدت أعمال الشغب إلى انقسام حاد في الرأي العام. فاعتبر اليمينيون أنّ هذه الأعمال تشكّل دليلاً على أنّ السياسات الليبرالية التي اعتمدت على مدى عقود دمّرت القيم البريطانية وأنشأت مجتمعاً منحطاً. وأُلقي اللوم على التأثير الذي خلّفته ثقافة الهيب هوب السوداء والعصابات في الشباب البيض والسود على حدّ سواء. فيما يميل اليساريون إلى اعتبار أنّ الفقر والظلم والتدهور الاقتصادي والمشاكل المرتبطة بالمخدرات وتقليص إنفاق الحكومة وتاريخاً من العلاقات المتوترة بين الشرطة والشباب السود مسؤولة عن أعمال الشغب. كما ذكروا المثال السيئ الذي أرساه الثري والقوي في المجتمع. وتتضمن الأمثلة عن التصرفات السيئة التي صدرت عن الأشخاص النافذين فضيحة مصاريف النوّاب وأزمة المصارف (إذ يتقاضى العاملون في المصارف رواتب وعلاوات كبيرة) وفضيحة التنصت على الهواتف التي اتهم روبرت مردوخ رئيس شركة «نيوز إنترناشونال» بها إلى جانب تدخّل الشرطة بها. لم تتسبّب أعمال العنف بإرهاب ودمار في شوارع بريطانيا، بل أضرت بالسمعة الدولية لبلد ستستضيف عاصمته الألعاب الأولمبية في السنة المقبلة. وفرح بعض السياسيين الأجانب مثل أعضاء نظام القذافي في ليبيا والرئيس الإيراني أحمدي نجاد بما حصل وحاولوا كسب رأس مال سياسي جرّاء «الاضطرابات» في بريطانيا و «سحق» المتظاهرين في شوارعها. وأطلق بعض المراقبين الأجانب على أعمال الشغب اسم «ربيع عرب بريطانيا» أو «انتفاضة بريطانيا»، فيما رفضت الحكومة البريطانية توصيفات كهذه، كما رفضت الإقرار بأنّ الفقر والظلم أو التقليص الكبير في إنفاق الحكومة بمقدار 81 بليون جنيه إسترليني خلال السنوات الأربع المقبلة مسؤولة عن أعمال الشغب. وأعلن كامرون أنّ أعمال الشغب هي «مجرّد عمل إجرامي ليس إلا»، وتبيّن أنّ «المناطق في بريطانيا ليست متصدّعة فحسب بل موبوءة»، متسائلاً: «هل نملك العزم على مواجهة الانهيار الأخلاقي البطيء الذي حصل في أنحاء بلدنا خلال الأجيال القليلة الأخيرة»؟ عبّر كامرون وحكومته عن تأييدهما لربيع العرب. وهو كان أول زعيم في العالم يزور ميدان التحرير عقب إطاحة مبارك، كما كانت بريطانيا محرّكاً أساسياً في تحركات حلف شمال الأطلسي في ليبيا من أجل دعم الثورة. وفي شباط (فبراير)، توجه وزير الخارجية وليم هيغ إلى البرلمان بالقول إنّ السلطات المصرية أخطأت في محاولة «منع الوصول إلى الإنترنت وإساءة استخدام شبكات الهاتف الجوّال. يملك الشعب اليوم الحق في استخدام هذه الخدمات بطريقة مفتوحة نسبياً». غير أنّ كامرون قال بنفسه عقب أعمال الشغب إنه سينظر في إمكان ضبط وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت في بريطانيا مثل إغلاق مواقع «تويتر» و «فيسبوك» و «ماسنجر بلاكبيري» خلال ظروف مثل أعمال الشغب. وسُرّت الصين التي تغلق أحياناً مواقع إلكترونية على الإنترنت لفكرة أنّ كامرون ينظر في إمكان إغلاق وسائل التواصل الاجتماعي. إلا أنّ ذلك أثار مخاوف المجموعات التي تُعنى بالحريات المدنية وعدد كبير من فئات الشعب. وبعدما تعرّض كامرون لانتقادات شعبية، غيّر رأيه وقرّر عدم السعي وراء القوى القانونية من أجل الحدّ من وسائل التواصل الاجتماعي. والتقت وزيرة الداخلية تيريزا مي ومسؤولو الشرطة ممثلين لشركات وسائل التواصل الاجتماعي بعد أسبوعين على اندلاع أعمال الشغب من أجل مناقشة الطرق التي يسع هذه الشركات من خلالها مساعدة الشرطة في منع تنظيم أعمال إجرامية. وأكد نائب رئيس الوزراء نك كليغ أنّ «أيّ تعتيم على الطريقة الإيرانية أو الصينية على وسائل التواصل الاجتماعي لن يحصل». كما أعلن كامرون اتخاذ إجراءات من أجل التعامل مع أعمال شغب في المستقبل. وسيُزاد عدد رجال الشرطة من التي يمكنها في إنكلترا استخدام الرصاص البلاستيكي وخراطيم المياه بعد 24 ساعة من إنذار في هذا الصدد توجهه السلطات. وتنظر تيريزا مي في إمكان إعطاء الشرطة سلطة لفرض منع التجوّل في مناطق واسعة. ودعم كامرون بل شجّع الأحكام القاسية التي فرضتها المحاكم على الأشخاص الذين دينوا بالقيام بأعمال الشغب والنهب. وهناك دعم شعبي كبير لفرض أحكام قاسية مماثلة، إلا أنّ المجموعات التي تُعنى بالحريات المدنية وعدداً كبيراً من المحامين يخشون من تآكل معايير العدالة العادية. وفي عدد من الحالات حُكم على بعض الأشخاص بعقوبات طويلة لأنهم نشروا رسائل على موقع «الفايسبوك» تدعو إلى القيام بأعمال عنف في بعض الأماكن على رغم أنّ هذه الأعمال لم تحصل. كما حُكم على شابين بالسجن لمدة أربع سنوات لأنهما دَعَيا إلى أعمال شغب في مدينتين، إلا أنّ محاولتهما هذه باءت بالفشل. ورأى كامرون أن من الجيّد أنّ توجه المحاكم رسالة قاسية وواضحة. وتأخذ الحكومة خطوات من أجل حرمان الأشخاص المدانين بارتكاب أعمال الشغب من الفوائد التي تقدّمها الدولة وتشجع المجالس على طرد المقيمين الذين تتمّ إدانتهم على رغم أنّ ذلك قد يؤذي الأشخاص الضالعين بأعمال الشغب وعائلاتهم على حدّ سواء. وأكد كامرون أنّ المجتمع البريطاني يعاني الآفات الآتية: «قلة المسؤولية والأنانية والتصرّف وكأن لا تبعات ناتجة من الخيارات والأطفال من دون أهل والمدارس من دون انضباط والمكافأة من دون جهد والجريمة من دون عقاب والحقوق من دون مسؤوليات ومجتمعات من دون سيطرة». وهو يرغب في إصدار شرعة حقوق تابعة للمملكة المتحدة. كما أنه هاجم إجراءات الصحة والسلامة. ويرى البعض تناقضاً في دعم كامرون لحقوق الإنسان في الخارج وفي سعيه إلى الحدّ من قانون حقوق الإنسان في بلده. على مرّ الأسابيع القليلة المقبلة، سيراجع كامرون ووزراؤه كل وجه من وجوه عملهم حتى يبحثوا عن طرق من أجل «تصويب مجتمعنا المتصدّع». ولا يزال كامرون يشدّد على أهمية العائلة ويرغب في إجراء «اختبار للعائلة» ينطبق على كل السياسات الداخلية. وإذا تسبّبت سياسة معيّنة «بضرر في العائلة... فعلينا العدول عن تطبيقها». ويرى البعض في تشديد رئيس الوزراء على قيم العائلة إهانة للأهل العازبين الذين ينجحون في تربية أولادهم تربية صالحة. ولا ترغب النساء في أن تكنّ عازبات، إلا أنهن يصبحن عازبات بعد قطع علاقتهن مع شريكهن أو من خلال الطلاق. ولفت كامرون إلى أنّ الحكومة ستحسّن كفايات الأهل و «ستغيّر حياة 120 ألف عائلة مضطربة» في حلول الانتخابات المقبلة عام 2015. كما تعهّد بشنّ «حرب مفتوحة» على ثقافة العصابات. وعيّن «الشرطي الخارق» الأميركي بيل براتون الذي كان رئيساً سابقاً للشرطة في لوس أنجيليس من أجل استشارته في شأن سياسات الشرطة، لا سيّما حول كيفية قمع العصابات. وتبدو الشرطة البريطانية غير راضية لأنه عيّن شرطياً غير بريطاني في هذا المنصب. وأفرحت خطوة كامرون الحاسمة باتجاه اليمين جناح اليمين في حزبه، إلا أنها تسبّبت بتوترات مع شركائه الديموقراطيين الليبراليين في الحكومة الائتلافية. وحذّر زعيم حزب العمّال المعارض إيد ميليبند من ردود الفعل المتهوّرة. وقال: «يوماً بعد يوم يظهر رئيس الوزراء أنه يبلغ أجوبة سطحية». وتشدّد حكومة كامرون على المضي قدماً ببرنامجها القاضي بتقليص الإنفاق على رغم أنّ برنامج التقشف لم يعمل في الشكل المطلوب بعد. فهي ترفض تعديل التخفيض بنسبة 20 في المئة على إنفاق الحكومة على الشرطة، مع أنّ رفع عديد رجال الشرطة في الشارع ساهم في السيطرة على أعمال الشغب. والجدير ذكره أن نسبة البطالة في بريطانيا ليست أفضل بكثير من تلك الموجودة في العالم العربي. وأظهرت الأرقام الأخيرة أن نسبة بطالة الشباب البريطانيين قد تخطت ال 20 في المئة. والمعروف أنّ هذه النسبة وسط الشباب السود في المناطق المدنية المحرومة هي أعلى وتبلغ نحو 50 في المئة. ويبدو أنّ فرص العمل الجديدة في هذه المناطق تذهب إلى الأجانب. وأظهرت الأرقام التي نشرت في آب أنّ شاباً من أصل خمسة تتراوح أعمارهم بين 19 و24 سنة لا يحظون بعمل أو تعليم أو تدريب. ويساهم الضجر ونقص الفرص وسط الشباب الفقراء في انضمامهم إلى العصابات وفي ارتكاب أعمال إجرامية وفي ارتفاع خطر حصول الاضطرابات في الشوارع. * صحافية بريطانية