المظهر الرئيسي للانتفاضات الجارية في العالم العربي، «سلميتها». هذا الاسلوب بالذات، هو الاسلوب الرئيسي الذي يطبع حركة المنتفضين الآن. في اليمن مثلا، حيث الاحصاءات تقول ان البلاد فيها 60 مليون قطعة سلاح منتشرة بيد السكان، ما زال التصرف الرئيسي الذي يحكم حركة المنتفضين سلمي الطابع اجمالاً. واذا استثنينا الحالة الليبية، فالحركة في مصر اتسمت بالسلمية، وكذا الحال في تونس، عدا حادثة الانتحار التي هي عنف فوق سلمي. كذلك فان الطابع السلمي مهيمن على الانتفاضة في سورية. المنتفضون جميعاً، بمن فيهم الليبيون، يلاحظون سلوكهم هذا وكأنهم اخترعوه متعمدين ليفاخروا به. والكل سعيد بهذه الخاصية، لدرجة ان البعض ينحرف متناولاً اياها من زاوية الخصوصية او «التميز». واللافت ان هذه النغمة الاخيرة تعالت، او انها وجدت، عندما بدأت الشعارات تضطرب امام تراجع وحدة الاهداف منذ سقوط الرؤوس الحاكمة في كل من مصر وتونس، او كما يحدث في سورية، حيث الانتفاضة، لا تتوافر على قيادة موحدة وناضجة على مستويي الشارع والقوى «المنظمة» المعارضة. السؤال الذي لم يطرحه المنتفضون، هو ما اذا كانت سلمية انتفاضاتهم نابعة بالفعل من انقلاب مجتمعي، ام انه اجراء تكتيكي، اقتضته الظروف او ظروف بعينها. هذا علماً بأن بعض الظواهر التي يمكن احتسابها يقول بأن الاستعداد لتغيير نهج الانتفاضات، من حالة الى اخرى، ليس بالامر الذي لا يجب توقعه. واذا اخذنا بمنطق الصراع البشري (باستثناء الحالة الغانديّة) فان القوانين المعروفة، والتجربة، وعلم الانتفاضة يقول بأن احتمالات الهزيمة، أمر من شانه ان يقلب الخيارات. وكمثال، فان خيار المنتفضين السوريين يمكن ان يتغير بين ليلة واخرى اذا اعتقدت الكتلة المحركة للانتفاضة، أن الخيار، او ما يسمى الحل، الامني الذي تعتمدة القيادة السورية حتى الآن، سيؤدي الى الحاق الهزيمة بالانتفاضة، او يصيب معنويات السكان المنتفضين بمقتل. وفي التطبيقات يمكننا ان نتخيل ميدانياً، ان هنالك تياراً يصر على سلمية الانتفاضة لا يزال هو الغالب. وان تياراً صغيراً أو أصغر، يريد الذهاب بالمواجهة الى الصدام المسلح. ذلك يعني ان احتمالات الهزيمة، خصوصا اذا لاحت في الافق، وارتبطت بخاصة بلجوء النظام الى القوة، سوف لن تكون في صالح الكتلة «السلمية». ونحن نلاحظ مفاعيل اعتبارات، أدت في ساحات وحالات اخرى الى غلبة اتجاهات لم تكن هي الغالبة في بداية الانتفاضة، كما هي حالة «السلفية» في كل من سورية ومصر. هذه السلفية تقول المعلومات انها قد تم تدريبها في السنوات السابقة، وحتى تزويدها بالسلاح، من قبل النظام السوري نفسه وداخل معسكرات جيشه. وذلك عندما كانت الظروف تقتضي تسريب هذه العناصر الى العراق بعد الغزو الاميركي له واحتلاله، اسهاماً اما في ضرب القوات الاميركية هناك، او القيام بعمليات عنف عشوائية تستهدف المدنيين العراقيين. وهؤلاء هم النواة التي يرجح ان تزداد نفوذاً داخل الكتلة المحركة للانتفاضة اذا تزايد التهديد، وكاد النظام يحقق نصراً على المنتفضين، الامر الذي سيغير رأسا على عقب طبيعة الانتفاضات، ويدخلها في اتجاهات مختلفة ومنحى آخر. معنى ما تقدم هو: هل العقبات الكبرى، او التعرض لعمليات اعتقال واسعه، او لتصفيات دموية من قبل السلطات، يمكن ان يكون عاملاً له شأنه في الحكم على الطبيعة الفعلية للانتفاضات القائمة؟ يتوجه السلفيون، من ناحية اخرى، في مصر وفي سيناء تحديداً، الى اقامة «جماعة ادارة من الحكماء» هناك، تحت دعوى «ادارة لفض النزاعات». ويقول هؤلاء انهم يهيئون خمسة آلاف مسلح، لضمان تنفيذ سلطة هذه الجهة، وكقوة حفظ «للقانون»، وهو ما يعتبر منحى لاقامة امارة مسلحة. البعض يعتقد انها يمكن ان تكون مقدمة لظهور امارات اخرى، تعتمدها ديانات اخرى في صعيد مصر مثلا، واية توجهات من هذا القبيل من الصعب تصور عدم اثارتها لردة فعل من نزعة التوحيد القسري القوية في مصر، وبالذات من جهاز الدولة والجيش، علماً بأنها ستؤدي لانتعاش القوى المضادة للانتفاضة، وتمنحها المبرر لرفع صوتها علناً، باعتبار ان الانتفاضة هي المسبب لاحتمال تمزق بلد مثل مصر، شديد الاعتزاز بوحدته الكيانية وقوة دولته المركزية. هذه المظاهر لا ينبغي ان تثير الهلع، وما يتردد عن احتمالات «التمزق»، او استشراء الصراعات الطائفية والاثنية التي تزخر بها المنطقة، هو امر جدير بالانتباه، الا انه ينظر اليه غالباً ك «صندوق مقفل»، مسبق وحتمي المقدمات والنتائج، مع استبعاد حتى احتمال ان تكون هذه الظاهرة مثلا، من قبيل حالة «التفكيك» و «اعادة البناء». هذا اذا صدقنا ان الذي يجري يشير فعلا الى جدية وتاريخية ما يشهده العالم العربي اليوم. فالثورات الفعلية هي انقلاب في البنى، ومقدمة اي انقلاب تستوجب التفكيك قبل اعادة البناء من جديد، الامر المنوط تدبره عادة بالافكار وبالابتكار التصوري. فالديناميات الفكرية المضادة للتشرذم، ولقوة عناصر وقوى ما قبل الدولة الحديثة التي هي معطى واقعي، ليس امامها غير مواجهة تلك العناصر، والبحث في ما يجعلها تتراجع عن طريق اكتشاف قاسم مشترك اعلى، متجاوز لها وراهن. وعموماً سواء نظرنا الى معسكر الانتفاضات او خارجه، فما نطالعه هو الارتباك في تعيين الحقائق الملموسة، والمعطيات الحية، والقدرة على ترتيبها حسب الاهمية والضرورة. وهذا يعني في الواقع العملي ترك هذه الظواهر الحيوية من دون علاج مناسب. فالنظر اليها حسب ترسانات ايديولوجية مسبقة، يعني تركها تفعل مفعولعا بذاتها، ومن دون تدخل يتماشى مع احتمالات التغيير المتاحة. وهذا ما يؤدي الى تسرب كل ما نشاهده من عثرات، وعودة فعل ما يفترض انه ماض اندحر، او انبثاق معوقات واسباب تشويش جديدة غير محسوبة. وكل هذا سيفضي الى تآكل مساحة الانتفاضات، ويضيق مدى حضورها الفعال، الامر الذي سيعيد تكرار القول بان الانتفاضات الحالية لا تزال تنتظر «الثورة المفهومية». فالتاريخ لم يعرف ابداً ثورات تاريخية بلا انتقال تصوري كامل. في تاريخ المنطقة البعيد والقريب الراهن، عرف التصرف «السلمي» لمرات غير قليلة، مع انه تحول لاحقاً الى تكريس سياقات عنفية واستبدادية قاهرة، او انه في حالات الثورات الكبرى «غيّر شكل العنف» ولم يبطله كلياً. الثورة الاسلامية قبل 14 قرناً، تصرفت سلمياً في بداية الدعوة، واستغرق التمسك بهذا الاسلوب اكثر من 15عاما بعد بدء نزول الرسالة، لكن في الحصيلة، حمل المسلون السيف وقاتلوا واستمروا يقاتلون. مع ملاحظة ان القتال الجديد غيّر صيغة العنف، من العنف القبلي الى العنف القبلي التوحيدي الاسلامي، الموافق لاشتراطات توسيع نطاق الدعوة ونشرها بالفتح. وفي العصر الحديث، قامت تظاهرات وانتفاضات «سلمية» في الاربعينات والخمسينات وحتى قبلها، انتهت الى تنصيب انقلابات عسكرية، وزعماء لا يتوانون عن رهن بقاء سلطاتهم بالعنف بأبشع صوره. والمهم الآن ان ينظر عالم، او معسكر، الانتفاضات في ما يؤول اليه مفهومهم وحركتهم اجمالا على صعيد مكان العنف ومستقبله. وفي هذا المجال المهم للغاية، ليس من النافع او مما يقبله عاقل، ان نرهن الممارسات الكبرى، والرئيسية التي تعين طابع الانتفاضات الحالية، بالشعاراتية، او التباهي، او اكتشاف خاصيات شعوب لا وجود لها. مع احتمال ان يكون الموجود والكامن هو عكسها كلياً. وفي النتيجة، ينبغي ان نعلم ان هذه المسألة بالذات، هي مسألة كبرى، وان سؤالاً حائراً وجوهرياً يظل يتردد: سلمية بالمعنى التاريخي ام في الاطار التكتيكي؟ * كاتب عراقي