بوسع شعبي مصر وتونس أن يفتخرا جداً بالطريقة التي ساهما بها في التخلص من نظامي حسني مبارك وبن علي. لكنهما لم يشاركا في تدمير هذين النظامين بالطريقة نفسها التي اعتمدها الليبيون الذين استطاعوا دخول ملاذات عائلة القذافي المخبأة وقصورها ومزارعها وملاعبها وسجونها التي باتت فجأة معروضة على مرأى الجميع. فهذا هو الأهم لأنه لغاية هذه اللحظة المفاجئة والسعيدة، كان النظام الليبي موجوداً في صندوق أسود وتمّ حجب عمله الداخلي عن الشعب وعن المراقبين الأجانب على حدّ سواء على مرّ السنوات الثلاثين الماضية على وجوده. ولم يتوخَّ هذا النظام السرية فحسب شأنه شأن البلدان الاستبدادية المجاورة له بل إنه كان مختبئاً تحت الخدعة التي أنشأها نمط الحكم الغريب الذي اعتمده معمّر القذافي والذي كان مبالغاً فيه من جهة ومستهجناً من جهة أخرى، بهدف تحويل أنظار الأجانب عن الأعمال الوحشية التي طالما كانت كامنة خلفه. وقد يستغرق فهم هذا الوضع جيداً سنوات عدة. وفي الوقت الحالي، يرتكز فهمنا على عدد من المقاربات البسيطة جداً المتعلقة بالنظام وبالبلد وبموارده وبوقع سياسة تأميم النفط على شعب مختلف من الناحية الاجتماعية. لنبدأ بالنظام الذي يبدو وراثياً بحيث يقوم الحاكم بحسب تحديد ماكس فيبر بممارسة السلطة على أساس روابط شخصية ووثيقة وعلى الزبائنية السياسية الهادفة إلى شراء الولاء وإنشاء الوفاء. وكما هو الحال في عالم المافيا، ينشئ هذا النظام غير الرسمي بيئة تتمّ فيها مكافأة الولاء من خلال السماح بالوصول إلى الحاكم علماً بأنّ العصيان يعدّ خيانة تتمّ المعاقبة عليها بعنف. ويفسّر ذلك برأيي بشكل أفضل عدداً من العناصر المهمة التي ميّزت سنوات القذافي بدءاً من الطريقة غير السوية التي تمّ بها توزيع عائدات النفط بين مجموعات مختلفة من الشعب وصولاً إلى الولاء الكبير الذي اعتمده عدد من أتباع القذافي للدفاع عن النظام خلال الأيام التي سبقت سقوطه. كما يفسّر ذلك سبب الخلل الموجود في هذه الأنظمة بحيث يتنافس أعضاء النخبة الرئيسيون كلّ لمصلحة الزعيم ويكونون غير قادرين على التعاون مع بعضهم البعض من أجل حلّ المشاكل المشتركة التي تفرضها الأزمات السياسية والاقتصادية أو الحاجة إلى وجود خلافة مستقرة. ولا عجب أنّ الحكومات الأجنبية لم تثق بأي عرض بإجراء مفاوضات باسم قبيلة القذافي لأنه لم يكن واضحاً ما إذا كانت تحظى بموافقة الزعيم أم لا. ولا عجب أيضاً أنّ الثوّار في بنغازي الذين يعرفون طبيعة النظام كثيراً لم يروا ضرورة للدخول في هذه المفاوضات. وبالعودة إلى الثورة نفسها، يعدّ الإطلاع على جغرافيا البلد أساسياً. كما كان الحال خلال الحرب العالمية الثانية، فإن المفتاح يكمن في سيطرة الجيش على الطريق الساحلي. فهذا ما سمح للطائرات المدمّرة التابعة لحلف شمال الأطلسي بالدفاع عن الثورة في بنغازي بسهولة من خلال منع قوات القذافي من الوصول إلى الممرات الجبلية التي تتصل بها من الغرب. لكن، على خلاف الوضع في بداية الأربعينات من القرن الماضي حين تمكنت دبابات الجيوش البريطانية والإيطالية والألمانية المتخاصمة من سلوك الطريق نفسه بسهولة، جعل تطوّر مجموعة من القرى والمدن الكبيرة على طول المتوسط خلال عهد القذافي التقدّم العسكري للثوّار باتجاه طرابلس أكثر صعوبة لأنه لم يكن ممكناً اجتياز هذه المراكز بسهولة. من هنا كان القرار الذي اتخذ في لندن في بداية شهر حزيران (يونيو) الماضي، والذي أشار إلى إمكان اتخاذ قرار بمهاجمة طرابلس من جبال نافوسا باتجاه الجنوب والتقدم بلا هوادة على طول طريق ليست عليها قرى كبيرة. كما برز قرار بمرافقة ذلك بحرب دعائية، بحيث ساهم التقرير الخاطئ القائل بالقبض على سيف الإسلام القذافي في إحباط عزيمة الموالين للقذافي فيما دخل الثوّار المدينة. ماذا عن مستقبل هذا البلد؟ إن ما يهم أكثر من أسماء أعضاء المجلس الوطني الانتقالي التي تعدّ هاجساً بالنسبة الى وسائل الإعلام الغربية حالياً هي الطريقة التي ستؤدي فيها لحظة الوحدة الوطنية في وجه طاغية عنيف وغريب الأطوار إلى قيام أحزاب مستقلة ضرورية للمشاركة في الانتخابات التي قد تجرى خلال الأشهر الثمانية المقبلة. لم تكن الأحزاب موجودة يوماً في ليبيا مع استثناء واحد في طرابلس عام 1952 بل إنه كما يعلم الجميع يترتب على الأحزاب إنشاء برامج ويجب أن تحتوي هذه البرامج على سياسات تكون مختلفة عن بعضها البعض. ويفرض ذلك تحدياً كبيراً. لكن، حتى لو تمت مواجهته جزئياً، سينتج خطاً مؤلفاً من ثلاث ديموقراطيات في قلب العالم العربي هي تونس وليبيا ومصر التي ستثير الخوف في قلب الطغاة في الشرق العربي وتقدّم الدعم للديموقراطيين في المغرب العربي، في الجزائر والمغرب. إضافة إلى ذلك، وكما أشارت الإعلامية هبة صالح، فان ليبيا تملك فرصة فرض تحدّ أمام دول الخليج في حال تمكنت من استبدال نظام الريع النفطي السابق الذي لا يفرض ضرائب وليس ديموقراطياً بنظام آخر يتميّز بهذه العناصر بطريقة أكثر انفتاحاً وتمثيلاً ومحاسبة. وبلا شكّ ثمة عدد كبير من الأشخاص داخل العالم العربي وللأسف خارجه يأملون في فشل هذا الاختبار وفشل ربيع العرب بكامله. لكن، لا سبب يدعو برأيي إلى افتراض حصول ذلك. فليبيا تملك ميزات كثيرة ليس على صعيد النفط فحسب بل على صعيد تقليد طويل من الخدمات الشعبية التي تملك خبرة كبيرة لا سيما في مجالي النفط والمال والتي صمدت في وجه تجاوزات نظام القذافي. كما يملك شعب ليبيا قومية كبيرة وتعلّقاً ببلده وبتاريخه بحيث لا يمكن حجب الحديث عن ميزاته القبلية والمحلية. ولا تحتاج ليبيا إلى المزيد من القومية بل إلى تحديد جديد للقيادة وإلى مجموعة من البنى السياسية التي تسمح بقيام حكومة من أجل الشعب وليس باسمه فحسب. * أكاديمي بريطاني - جامعة هارفارد