إن ظاهرة انتحار الحيتان، التي حيرت العلماء زمناً طويلاً، ما هي إلا حالة متجسدة للغريزة التي فقدت أسباب وجودها، فقدت وظائف حواسها. هكذا تستشعر الغريزة الحيوانية انتهاء دورها...، هكذا أرى أن النوع الأدبي حينما يفقد وظيفته فإنه ينقرض. وحينما استنفد الشعر المنظوم أدواته ووصل إلى التصنيع الزائف بالقافية المفتعلة، جاءت الاستجابة الإبداعية الفاعلة بصدقيتها المتحررة من تلك القيود...، فكانت قصيدة التفعيلة. أما قصدية النثر فإن نشأتها قد ارتبط بأشخاص عرفناهم بتمردهم على كل شيء بما في ذلك القيم الأخلاقية، ابتداء من: الفرنسيين؛ الوسيوس برتراند (1807-1841)، وتشارلز بودلير (1821-1867) ورامبو والأميركي جيمس رايت (1927 – 1980) والبريطاني «اوسكار وايلد». نموذج من قصيدة النثر في اليمن : رجلٌ في الخارج يقول إنه أنا. لم أجد نصاً شعرياً يجسد حالة الإنسان المستلب بطريقة العالم (التالف) كما فاض به الشاعر «طه الجند» في عنوان ديوانه الثاني، «رجل في الخارج يقول انه أنا» من قصيدة «أنا خائف يا أمي». حينما نقف مع عنوان الديوان (العتبة) نكاد نرى مشهداً درامياً لرجل: خارج..، خارج الذات خارج البيت .. خارج.. الوطن...ما شئت من التداعيات. يدعي تمثيلك في صوتك.. في موقفك.. في حياتك.. في حقوقك...في مجلس الشعب...في الحزب في الوظيفة. في لقمة العيش... إلخ. هكذا نرى حالة الإنسان المستلب في حقوقه ووجوده. لكن عنوان القصيدة المتضمنة لهذه التداعيات الانزياحية هو «أنا خائف يا أمي»، ولهذا فعتبة القصيدة تحملك إلى النتيجة، في حين أن عنوان الديوان يقف بك مع السبب. لكن تحليل النص يعكس السبب والنتيجة. «أنا خائف يا أمي» متى يفقد الإنسان الأمان، ما سبب هذا الخوف، إن البداية تشكل لحظة درامية لمشكلة، المشكلة هي الخوف... والدراما تبدأ بمشكلة... وتنتهي بالتنوير والكشف حول المشكلة نفسها، وبينهما الصراع. إذا عتبة النص أشارت إلى مجمل المشكلة، وتركت القارئ يتشوق لمعرفة سبب هذا الخوف، وبالتالي تدفعه لقراءة التفاصيل: ريحٌ وراء ريح جهات تنصت لوقع أقدام كمضارب الطبل المنتشي تبدو كقوالب الطين. نلاحظ هذا لمدخل والذي يشبه التمهيد للأحداث في النص الدرامي. والريح في الموروث العربي ترتبط بدلالات الخراب ... الصورة الثانية: الجهات التي تنصت لوقع أقدام. تدل على ترقب وتوجس، نأتي إلى الوصف والذي ينزاح إلى الأقدام وبالمقابل لا يمنع أن ينزاح إلى الجهات... الجهات مُنكَّرَة وكذلك وقع الأقدام، وبالتالي يكون التوتر الدرامي الناشئ عن الحيرة في تحديد معرفة واضحة حول الموقف، لكن وقع الأقدام (كمضارب الطبل المنتشي) يوحي بدلالة قرع طبول الحرب في تعالقها مع وقع الأقدام الذي يبدو (كقوالب الطين) ومن هذه الصورة نلمس الدلالة المادية والقسوة المجردة من أي إنسانية...وبالتالي فإن هذا التمهيد كما لاحظنا تعالق مع التوتر الدرامي بالمعنى الاصطلاحي للتوتر. حجارة مهمومة و(مقرفصة) في الشعاب في المكان الغائم حقول مبللة وفلاح أجير وراء المحراث الراعي يحدق في شجن برعد مبهم وزريبة مسورة بنجمة للمساء بقرية مجاورة وقمر إضافي يربك السواقي والعشاق «كلاب القات المدببة»، (إذا كانت المدببة خطأً مطبعياً ل المدربة) فأرى أن المدببة أكثر شعرية بانزياحها على دلالة الدبابة أو الرؤوس المدببة (الحادي) (طولقة) السوق ينحدر من جبال ذات أنوف معقوفة ينحدر من مكمنه جنوباً في السهل يقف مع الأمر والفراغ. في هذا المقطع ينتقل بنا من التمهيد المشبوب بالتوتر إلي مشهد في مقابل متواز مع المشهد السابق، وهو مشهد تسجيلي لحالة العامة، وهي حالة سلمية محايدة وبريئة، وتكاد تكون مغيبة عن ذلك المشهد... لكن إذا دخلنا في التفاصيل سنكتشف عالماً يتسع لأكثر من قراءة، فمثلاً: حجارة مهمومة ومقرفصة في الشعاب في المكان الغائم حقول مبللة وفلاح أجير وراء المحراث كم هو نحيل وخافت ذلك البحر. الحجارة المهمومة والمقرفصة في الشعاب، تنزاح إلى دلالة السكون والسلبية، مع المكان الغائم والحقول المبللة... وبالمقابل نرى فلاحاً أجيراً وراء المحراث، لاحظ الانزياح المتعالق مع دلالات جديدة، (كم هو نحيل وخافت ذلك البحر) هذا الانتقال المدهش الذي ربط الفلاح بالبحر الذي فقد مظاهر طبيعته المتحركة وأنفاسه المتلاحقة، ليصبح نحيلاً وخافتاً... أمورٌ بعيدة تستوي على المراكب تستوي أرض الراكب في الربيع تزهر شجرة البرقوق ونقطف الرمان في الحال الراعي الصغير لم يكبر. ولم يتغرب بعد (نلاحظ هنا دلالة المكان الطارد المكان الدافع للاغتراب، والاغتراب هنا مجازي وحقيقي... هنا بدأ يشير إلى حالة من حالات أسباب الخوف، هذا المكان الذي لا يستبقي إلا الأطفال الذين لا نراهم يلعبون أو يتعلمون فهذا مغيب ولكن رعاة، حتى يحين موعد اغترابهم...لاحظ التضاد بين السياق السردي ووعي التلقي الذي نرى فيه طفلاً كهذا هو أصلاً في حالة اغتراب. ثم يكشف أكثر: أنا خائف يا أمي من وشوشات الليل من رجل في الخارج يقول إنه أنا الجهات والليالي تتواطأ علينا. في هذا المقطع يقدم الكشف الدرامي لمشكلة الخوف، إنها حالة الاستلاب الناتج عن النصب الاحتيال الذي تتواطأ فيه الجهات. القرى تستحم واقفة حين يراها البرق عارية تغمض عينيها وتقفز على الصخور الوادي يلقي بالغارق جانباً قريباً من القاع يصحو الطين والنمل الطائر الضفادع والبرك الأوتاد في الزرائب الديك الأحمر يتسور الجدار ويصرخ دون تمييز. هكذا يختتم الشاعر نصه، بهذه البساطة الممتنعة ليقدم كشفاً آخر موازياً للكشف السابق، ويشكل خطورة دلالية غير عادية بحضور المكان ومفرادته: الطين.. النمل.. البرك.. الضفادع.. الأوتاد.. الزرائب.. الديك الذي يصرخ من دون تمييز. لكن الإنسان غائب، وحضور الإشارة إليه من باب كونه ضحية حتمية «الوادي يلقي بالغارق جانباً قريباً من القاع». هكذا نجد القصيدة هي القصيدة التي تمتلك روحها الشعرية، من هنا تسقط التصنيفات السطحية من وجهة نظري، والمحاولات الكسيحة للبحث عن تنظيرات متعصبة لنوع على نوع...لأن كل ما وجدته من سمات في قصيدة النثر لا يمنع أن توجد في قصيدة التفعيلة، لكني أرى أن القصيدة المنظومة بمظاهرها الراهنة قد فقدت صلاحيتها ...، وأن التكثيف والومضة والحالة الخاصة والمفارقة والتضاد والموقف الدرامي إضافة إلى المجازات...كل ذلك من سمات القصيدة الجديدة.