من المفاصل المهمة لمشروع خادم الحرمين الشريفين «الإصلاح» هو مسألة مكافحة الفساد، واهتمامه بهذه القضية لأنها آفة خطرة في كل مجتمع، والاعتراف بها من أعلى سلطة في البلد دليل على الجدية الحقيقية في محاربتها والقضاء عليها، ليس من خلال الحلول الفردية، بل من خلال إقامة المؤسسات المتخصصة، مثل الأمر الملكي الكريم بإنشاء هيئة وطنية لمكافحة الفساد بكل أشكاله. عندما نقول بكل أشكاله، لأنه يوجد للفساد أشكال قبيحة قد يكون سرقة المال العام أكثرها شيوعاً، ولكن هناك أشكالاً أخرى ليست ظاهرة ولكنها مؤذية لمشاعر الغالبية في أي مجتمع، فمثلاً الإقليمية في التوظيف أعتقد أنها مجحفة وملغية لحق الآخرين في الحصول على وظيفة عامة يحق لأي فرد من أفراد المجتمع التقديم والمفاضلة عليها، وهذا حق مشروع تفرضه المواطنة الحقة للجميع، ومع الأسف فإننا نجد الكثير من مثل هذه المسابقات الوظيفية تذهب لأشخاص أخذوها ليس على أساس الكفاية، بل لأنهم ينتمون لمنطقة المسؤول أو المدير أو الرئيس، لأن من يتحكم بهذه الوظيفة هو من منطقة وبلديات هذا الشخص أو ذاك. ومن الظواهر الغريبة لآفة الإقليمية والمناطقية في مؤسساتنا الرسمية هو ما يمكن تسميته بظاهرة امتداد النفوذ، أي فهم للمثل الذي يقول من زرع حصد، فالمسؤول الأول المؤمن بالمناطقية، وبعد سياسته المناطقية تلك ضمن الولاء وامتداد النفوذ فيها لسنوات مقبلة طويلة، على رغم الخروج الجسدي منها، أما القوة الحقيقية فلا تزال في قبضته الحديدية وبشكل أكثر شراسة، ولكنها هذه المرة تبدو مكشوفة وظاهرة لتمرد بعض القوى في الداخل من قبضاته البوليسية. فمثل هؤلاء، على رغم تقاعدهم أو نقلهم إلى مواقع أخرى إلا إنهم يحنون إلى المراكز التي زرعوا فيها قواهم المناطقية والويل والثبور للمسؤول الجديد لذلك الجهاز إذا أتى من غير إقليمهم أو قبيلتهم أو مذهبهم، فإن المسؤول المناطقي يحرجه أمام العالم، لأنه يعتقد أنه يدير هذا الجهاز، ولكنه في الحقيقة لا يعرف ما يدور في مؤسسته إلا في النهار، أما في الليل فمعظم موظفيه يوجدون في بيت أو استراحة ذلك المنقول أو المتقاعد، الذي يوزع الأدوار ويقسم الغنائم عليهم، ويبعث من يبعث، ويخسف بمن يخسف، ومن شدة هول القبضة الحديدية منه يخاف ويرتعد المسؤول الجديد ويطاطئ رأسه للتيار خوفاً أن يبتلعه ويطيح به خارج أسوار الاستراحة، وتكون جمجمته أثراً من الآثار التاريخية من حوله. هل يمكن لهيئة الفساد أن تحارب هذه الأشكال من الفساد التي قد تكون أخطر من الفساد المالي المباشر؟ مثل هذا النوع من الفساد يؤسس لثقافة مجتمعية حاضنة لتهميش بعض أبناء مجتمعها، وقد تكون خطورتها أقوى على مر السنين. [email protected]