منذ اليوم الأول للحراك العربي رأت دوائر روسية إلى التغيير الكبير يصب في خانة المصالح الأميركية والأوروبية عموماً. وذهبت دوائر إلى حد الترويج لنظرية «المؤامرة» الخارجية وراء ما جرى ويجري. والتلميح إلى المشروع الأميركي لإقامة «الشرق الأوسط الكبير». ولم تكن هذه الدوائر تحتاج إلى عناء كبير بحثاً عن أدلة إلى ما قامت به الولاياتالمتحدة وما تقوم به، في مصر كما في تونس، وفي ليبيا كما في اليمن. وليس سراً بالطبع استعجال واشنطن علناً رحيل الرئيس زين العابدين بن علي، ثم الرئيس حسني مبارك. وليس سراً التنسيق القائم بينها وبين المجلس العسكري في القاهرة، وبينها وبين شرائح واسعة من القوى والأحزاب السياسية المصرية. وليس سراً أيضاً الدور الذي لعبته من أجل حماية الليبيين من نظام العقيد معمر القذافي ثم انتصارهم على هذا النظام. والدور الذي لم تكف عن أدائه من أجل إنهاء نظام الرئيس علي عبدالله صالح. بالطبع إن هذه النظرة الروسية إلى الحراك العربي قاصرة وبعيدة كل البعد عن الأسباب المباشرة والحقيقية لخروج «الشباب» إلى الساحات والشوارع. والتي قيل فيها الكثير البعيد كل البعد عن كونها ثورات بإيحاء غربي أو أميركي. تعرف موسكو أن الغرب فوجئ مثلما فوجئت، وإن كانت صدمتها أكبر. وتعرف أن أميركا وأوروبا ترددتا أولاً لكنهما سرعان ما واكبتا الحراك ثم انخرطتا في اللحظة المناسبة لتأمين حضورهما في قلب الأحداث والمساعدة حيث يجب لإنجاز التغيير المنشود. فلا غرابة إذاً أن يكون لهما دور مؤثر في رسم معالم المستقبل مع قوى التغيير الجديدة، وفي التفاهم معها على المصالح المتبادلة وسبل الحفاظ عليها. يبدو من الحذر الذي يحكم الديبلوماسية الروسية أن موسكو لم تستوعب الصدمة التي أصابتها نتيجة هذا الحراك العربي. ويخشى أن تؤدي مواقفها مما يجري في العالم العربي إلى خسارتها لسنوات علاقاتها بالشرق الأوسط إذا نجح هذا الحراك في إكمال مسيرة التغيير التي ينشدها. وأن تخسر أيضاً مصالحها المتوارثة من أيام الاتحاد السوفياتي والمستجدة بعد انهيار هذا المعسكر. وإذا كان بعضهم يسوق أسباباً مقنعة لوقوفها مع النظام السوري، فإن ما لا يجدون له تفسيراً هو دعوتها الليبيين إلى سلطة تضم الجميع بمن فيهم فلول نظام العقيد معمر القذافي الذي يبحث عن مأوى بعد اقتراب الثوار من نصرهم الكامل! وإذا كان لا تفسير مقنعاً لموقف روسيا مما جرى ويجري في ليبيا، فإن لوقوفها في مجلس الأمن في مواجهة أميركا وأوروبا دفاعاً عن النظام السوري أكثر من سبب واعتبار. هناك حسابات كثيرة، قديمة ومستجدة: موسكو لا تخفي مشاعر الريبة وهي تنظر إلى صعود القوى والأحزاب الإسلامية ودورها في الساحات والشوارع. ولعل أكثر ما تخشاه، هي التي تعاني من عنف الحركات الأصولية في القوقاز وغيره، أن تمسك هذه الأحزاب والقوى بالسلطة، سواء في مصر أو تونس أو حتى في ليبيا. أكثر ما تخشاه أن يشكل هذا حافزاً مشجعاً وداعماً للقوى الإسلامية في الاتحاد الروسي والدول التي لا تزال تدور في فلكه. وفي الحسابات أن موسكو حاولت ولا تزال تحاول في ظل حكم الثنائي بوتين وميدفيديف، إعادة بناء فضاءاتها الخارجية، خصوصاً في الشرق الأوسط بعدما خسرت معظم أوروبا. وسعت بعد مؤتمر أنابوليس لاستضافة مؤتمر ثانٍ لحلّ القضية الفلسطينية، متوسلة من وراء ذلك استعادة دور فقدته بعد انهيار المعسكر الشرقي. ولعل بين أسباب وقوفها وراء النظام في دمشق إدراكها أن سورية شكلت وتشكل معبراً أساسياً لا يمكن أي تسوية إقليمية أن تتجاوزه أو تتجاهله. فضلاً عن مصالحها في هذا البلد، والتي تبدأ من مبيعات الأسلحة وتنتهي بمشروع إقامة أكبر قاعدة عسكرية بحرية في طرطوس. تتصرف روسيا كأنه لم يبق لها سوى الشرق الأوسط مسرحاً للمنافسة والمقايضة مع أوروبا وأميركا. لذلك لا تزال إلى اليوم تناور في الملف النووي الإيراني، وفي موضوع صفقات الصواريخ مع طهران، من أجل مقايضة الجمهورية الإسلامية تارة وأميركا وأوروبا تارة أخرى. تعرف روسيا أن نفوذها تراجع تراجعاً واسعاً في آسيا الوسطى وأوروبا الشرقية. ولم يبق لها سوى مغازلة أوروبا وحتى استرضائها، على رغم أنها تبدو كمن يمارس سياسة لا يمكن أن تحظى برضى أوروبا أو أميركا. أو تقف في مواجهتهما، كما لو أنها تنهج سياسة مزدوجة. أو كما لو أن الحرب الباردة لا تزال قائمة. والواقع أن الأميركيين زاحموا الروس ويزاحمونهم في فضائهم اللصيق، سواء في آسيا الوسطى أو في دول البلقان، فضلاً طبعاً عن دول أوروبا الشرقية والوسطى التي بات معظمها جزءاً من الاتحاد الأوروبي. تعتقد موسكو أن الولاياتالمتحدة ذهبت بعيداً من حدودها السياسية والأمنية والعسكرية. ولا حاجة إلى التذكير بما حصل في جورجيا وفي موضوع الدرع الصاروخية وغيرها الكثير من المواقع. بل لا حاجة إلى التذكير بالسياسة التي اتبعتها إدارة الرئيس جورج بوش. من السعي إلى التفرد بإدارة شؤون العالم، إلى تجاهل دور الأممالمتحدة سواء في الحرب على أفغانستان أو الحرب على العراق. علماً أن إدارة الرئيس باراك أوباما تركز على الشراكة في إدارة الأزمات، السياسية والاقتصادية. وفضلت غير مرة أن تكون في الصورة الجماعية، إن لم يكن في الصورة الخلفية. وتعبر في كل مناسبة عن حرصها على أن يكون تحركها وتحرك حلف الناتو تحت غطاء الشرعية الدولية، أي غطاء الأممالمتحدة. هذا ما حصل في التدخل الخارجي في ليبيا. وهذا ما تحاول أن تتبعه في مواجهة العنف الذي يمارسه النظام السوري ضد المتظاهرين والمحتجين. ربما بدت روسيا في الأزمة السورية تقف في مواجهة تركيا التي أوكل إليها الأميركيون والأوروبيون وبعض العرب إدارة هذه الأزمة. تركيا التي شكلت قديماً طوال الحرب الباردة سداً على الحدود الجنوبية للسوفيات. والتي زاحمت وتزاحم موسكو في محاولة حل الملف الإيراني. والتي تسعى جاهدة اليوم لتكون المعبر الأساس للغاز والنفط الإيراني والآسيوي إلى أوروبا. وهو ما يهدد ورقة ضغط طالما استخدمتها روسيا في التعامل مع الاتحاد الأوروبي. إلى كل هذه الحسابات، تنظر روسيا إلى الصين وقد نجحت في قمع الحراك، مثلما نجحت إيران أيضاً على أثر الانتخابات الرئاسية قبل سنتين. ولا تستبعد أن ينجح النظام في سورية في قمع الحراك، ما دام هذا النظام لم تتهدده انقسامات كما حصل في ليبيا واليمن مثلاً. فالمؤسسات القائمة، السياسية والأمنية والعسكرية، لم تشهد حراكاً ينذر بقرب الانهيار. كما لم تشهد البلاد حراكاً جهوياً جدياً ينذر العاصمة بفقدان سلطتها وسيطرتها، كما فعلت بنغازي عندما خرجت عن سلطة طرابلس. كلا الطرفين يراهن على تعب الطرف الآخر وإنهاكه في معركة أصابع قد تطول. ربما تخشى روسيا أن تهب على شبابها رياح الربيع العربي، على رغم الفروقات الكبيرة بين المجتمع الروسي والمجتمعات العربية. علماً أن كثيرين من الروس لا يخفون حساسيتهم من التغيير الجذري، أو الثورة. هم يعتقدون بأن ثورة الحرية التي أطاحت قبل عقدين ونيف الشيوعيين لم تحقق العدالة والبحبوحة. ويرون أنهم أخطأوا في الانتقال السريع إلى الحرية. كان عليهم ربما أن يعتمدوا ما اعتمدته الصين التي وازنت بين الإصلاح السياسي التدريجي والإصلاح الاقتصادي، ما جعلها الكتلة الاقتصادية الثانية بعد الولاياتالمتحدة. من هنا تخوفهم من الفوضى في الشرق الأوسط نتيجة هذه التغييرات الجذرية. لا يعني ذلك في الضرورة أن روسيا تستطيع أن تقاوم طويلاً رغبات أو مصالح حيوية لأميركا وأوروبا. وقد وافقت قبل نحو أسبوعين، على رغم تمنعها، على بيان لرئاسة مجلس الأمن يدين ممارسة السلطة السورية العنف ضد المتظاهرين. ولا يستبعد أن تبدل مواقفها إذا كان ثمة مجال للمقايضة... إلا إذا كانت تغامر بخسارة الشرق الأوسط وقواه الجديدة الصاعدة، كما خسرت في فضائها وحدائقها الأمامية والخلفية، في آسيا وأوروبا.