مع اتساع دائرة برامج المسابقات الفضائية، وسيل المعلومات المتدفق الذي يبتذل المعارف العامة في البرامج الاستهلاكية، لتصبح المعلومات مجرد أرقام تُحفظ، وكأن معرفة عاصمة السويد أو أطول نهر في العالم غاية العلم والمعرفة، مع اتساع كل هذا دخلت «الفتوى» على الخط - كعادتها - وفصّلت في مسائل هذه البرامج من كافة الجوانب. وبما أن برنامج «من سيربح المليون» رائد الفكرة بأدواتها ووسائلها الجديدة «عربياً» - باعتبار البرنامج الأصلي إنتاجاً بريطانياً خالصاً - كان له نصيب الأسد من سهام الفتوى، اذ اعتبر مفتي الديار المصرية «السابق» الشيخ نصر فريد واصل، أن هذا البرنامج وما يشابهه من برامج المسابقات التلفزيونية والإذاعية «حرام» قائلاً: «إن هذه المسابقات صورة مستحدثة من صور القمار والميسر المحرمة شرعاً بالإجماع، اذ يسهم جميع المشتركين في هذه المسابقات بجزء من أموالهم في الجائزة، من خلال ثمن المكالمات الهاتفية لهذا الغرض، وهذا هو الغرر الفاحش المنهي عنه شرعاً». ملحق الرسالة، صحيفة المدينة 15/4/1422. ولم يعدم مفتي الديار المصرية من يؤيده ويعاضده في هكذا رأي، اذ أبدى الشيخ عبدالله بن منيع - عضو هيئة كبار العلماء في السعودية - تأييده لفتوى الشيخ نصر فريد واصل قائلاً: «الذي يظهر لي أن الله وفّق فضيلة مفتي مصر في هذه الفتوى التي صدرت منه، ذلك أن الدخول في هذه المسابقات لا يخلو من حالتين: إما أن يكون المشترك سالماً من الغرم «الخسارة» ويحتمل الغنم «المكسب» بحيث لا تترتّب على دخوله أي خسارة، حتى لو كانت ضئيلة مثل قيمة الاتصال الهاتفي الذي يجريه للدخول في المسابقة. فإذا كان الأمر على هذه الصورة فلا بأس في الدخول في هذه المسابقات وجائزتها مباحة ولا شيء فيها، لأنه لا يترتّب عليه غرم، ويحتمل فيها الفوز. وأما الحالة الثانية فهي أن يكون غارماً «متحملاً للكلفة»، ويحتمل الغنم «الجائزة»، بحيث لا يستطيع الدخول في المسابقة إلا بدفع مبلغ معيّن كقيمة الاتصال الهاتفي، وهو بين احتمالين: إما أن يغنم الجائزة وهو احتمال ضعيف، وإما ألا يربح الجائزة وهو الأقوى، فهذا نوع من الميسر والقمار المحرّم شرعاً وكسبه خبيث لا يجوز». صحيفة المدينة 18/4/1422ه. كما اتفق مع هذا الطرح فضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان – عضو اللجنة الدائمة للإفتاء عضو هيئة كبار العلماء - مؤيداً فتوى الشيخ واصل والشيخ ابن منيع حول تحريم المشاركة في البرنامج، وما شابهه من مسابقات إذاعية وتلفزيونية، قائلاً أمام جموع غفيرة في المسجد الحرام: «قرأنا ما نشرته الصحافة حول هذه المسابقات من فتاوى تشير إلى أنها حرام وقمار وعمل غير جائز، ونرى أن المشاركة في هذه المسابقة لا تجوز باعتبارها من أنواع من القمار». صحيفة المدينة 25/4/1422ه. ونأى السيد جورج قرداحي مذيع برنامج «من سيربح المليون» بنفسه عن الخوض في الفتوى الصادرة بحق برنامجه، واصفاً نفسه بأنه «غير مؤهل للرد على ما ورد من سماحة المفتي»، مشيراً أنه لا يرى من الحكمة أن يزجّ بنفسه في الأمر باعتباره مسيحياً، لكنه نفى أن تكون الاتصالات التي يتم عبرها اختيار المشاركين في برنامجه تدر أرباحاً تذكر، لأنها – بحسب قوله - تُنفق فوراً في إجراءات معاودة الاتصال بمن يقع عليهم الاختيار بالمشاركة، ويذهب ما تبقى منها في تغطية تكاليف سفرهم وإقامتهم. صحيفة المدينة 18/4/1422ه. وفي الجانب الآخر، أثارت هذه الفتوى جدلاً إعلامياً في مصر «موطن مُصدر الفتوى»، اذ قوبلت هذه الفتوى بآراء اعترضت عليها في بعض أجهزة الإعلام المصرية، كما هاجمها كتّاب اعتبروا أنها تضيّق على الناس. وجاءت أبرز الردود المعترضة على الفتوى على لسان وزير الإعلام المصري - حينذاك - صفوت الشريف الذي قال: «إن برامج المسابقات ليست مراهنات، وإنما يدخل فيها تشغيل العقل وهي تشبه مسابقات المدارس والجامعات»، متسائلاً: هل إذا أردنا أن نحدد شخصاً فائزاً في أي مجال ونشجعه ونكافئه يُصبح هذا العمل حراماً؟»، أما رئيس الشركة المصرية للأقمار الاصطناعية نايل سات أمين بسيوني فقال: «إن برامج المسابقات تعتمد على أسئلة في المعلومات العامة في شتى المجالات، وترصد جوائز للفائز الذي يثبت أنه أكثر ثقافة وعلماً، أي أن هناك مجهوداً يبذله الفائز حتى ينال الجائزة، وأن هذه المسابقات ليست ضربة حظ بل يستفيد منها المشاهدون والمستمعون بما يكتسبونه من معرفة وثقافة عامة». ومن ردود الفعل الساخرة على الفتوى ما ذكره رئيس تحرير صحيفة أخبار اليوم المصرية إبراهيم سعدة اذ قال: «حرام أن نحرّم كل شيء وأي شيء، وأخشى أن يخرج علينا أحدهم قريباً محرماً الضحك، باعتبار الشيطان هو الذي يضحك وحده»! مجلة المجلة، العدد 1118. هذا ما ناله البرنامج من الفتوى، على رغم أن مآخذ أصحاب الفتوى على البرنامج لم تعد تقتصر على البرنامج المليوني فقط، بل أضحت باب رزق لبرامج دينية أيضاً، لكن الفتوى بحكم شعبيتها سلطت سياطها على أكثر البرامج شعبية!