للمرة الثانية في أقل من عام، يدوّي اسم «نيويورك تايمز» في الأوساط الإعلامية الأميركية والعالمية. فبعد طرد رئيسة التحرير جيل أبرامسون في أيار (مايو) الماضي (أول امرأة تتبوأ منصب رئيسة تحرير في الصحيفة)، سرّب شخص مجهول من الداخل مستنداً سرياً حول «الابتكار» في ال «تايمز». التقرير المؤلف من 96 صفحة أعدّه فريق من 8 أشخاص يرأسه أرثر سولزبرغر، ابن ناشر الصحيفة، ويعرض تحديات تواجهها المؤسسة العريقة في ظل رياح التغيير الإلكترونية وبروز منافسين رقميين جدد في مجال الصحافة والتغطية الإخبارية. يحصي التقرير أكثر من 14 مليون موضوع في أرشيف الصحيفة، منذ عام 1851، لافتاً الى أن على الصحيفة القيام بعمل أفضل «ليطوف المحتوى الأرشيفي على السطح». ويأخذ التقرير مثالاً عن مادّة أعدها موقع «غوكر»، Gawker، استخدم فيها مقالة نشرتها «تايمز» قبل 161 سنة، وتتناول سولومون نورثاب، كاتب مذكرات «12 عاماً من العبودية»، وقد اقتبست لفيلم سينمائي عام 2013. وتطرح المقالة سؤلاً جوهرياً: «لماذا لم تستفد الصحيفة من أرشيفها في حال كهذه؟». ويقترح التقرير ان تكون الصحيفة نشرة يومية ومكتبة في آن واحد، فتقدم أخباراً يومية، إضافة الى مواد صحافية مرتبطة ب «سياق الحدث» وليس بزمانه. وفي النقاط التقنية، يتحدث التقرير عن تراجع أهمية الصفحة الأولى، إذ يلفت إلى أن ثلث قراء الموقع فقط يتفقدون الصفحة الأولى، وأن مدّة زيارة الصفحة الأولى انخفضت بشكل ملحوظ. كما تتخلف «تايمز» في مجال هيكلة موادها ووسمها لاستخدامها في إضافة ميزات على الموقع، مثل زاوية «مقالات مرتبطة» أو زاوية تقترح مواضيع قد تهم الزائر. ويناقش التقرير، في قسم آخر، طريقة تسويق محتوى ال «تايمز» على شبكات التواصل الاجتماعي، ويقارنه بتكتيكات يستخدمها منافسون. ويعطي مثالاً عن استراتيجية موقع «بروبابليكا»، ProPublica، واصفاً إياه ب «قلعة مبادئ الصحافة الكلاسيكية»، وهو يفرض على المراسلين تقديم 5 عناوين مختلفة للمادة التي ينجزونها لكي تُستخدم تغريداتٍ على «تويتر». ويعدد التقرير مبادرات فردية لصحافيين في ال«تايمز» يسوّقون موادهم عبر حساباتهم الشخصية لمواقع التواصل الاجتماعي، ما رفع نسبة زوار الموقع. ويرى التقرير أن «الصحيفة لا يجب أن تكون بمنأى عن تداخل الأدوار بين الناشر والقارئ في المجال الإعلامي الجديد»، وعليه يتوجب على الصحيفة فتح المجال لمساهمات القراء، معتبراً ان «كثيرين من بينهم أشخاص مثقفون وأصحاب آراء مميزة تستحق الإصغاء، وفي إمكانهم المساهمة في كتابة مواد قد تجذب قراء آخرين إلى الموقع». ويدعو التقرير الى «مزيد من التواصل والتعاون بين أقسام الشركة، ومجموعات العمل المختلفة». ويطرح «سؤالين كبيرين»: كيف يمكن للصحيفة أن تكون أكثر رقمية مع الحفاظ على حضورها كجريدة مطبوعة؟ ثم ما الذي يجب أن يتغير في متطلبات النسخة المطبوعة لتحرير الموارد وتوظيفها في العمل الرقمي؟ وعلقت صحيفة «بوليتيكو»، Politico، على التقرير واصفة إياه ب «الكارثة»، معتبرة أنه «وصفة جاهزة لتدمير 163 سنة من تاريخ هذه الصحيفة، فقط من أجل منافسة مواقع الكترونية حديثة العهد مثل BuzzFeed وHuffington Post وغيرهما من المواقع التي تجذب أعداداً كبيرة من القراء». وكتب مارك بوتس من صحيفة «أميركان جورناليزم ريفيو»American Journalism Review أن «نقل التركيز في صحيفة ال «تايمز» يكشف ما تواجهه كل المؤسسات الإخبارية، كما تظهر حال الصحافة اليوم، وخصوصاً أن بعض تلك المؤسسات لم يستطع التأقلم بعد مع المتغيرات الطارئة على هذا القطاع. وعلى رغم مرور عقدين على ثورة «الأخبار الرقمية»، لا نزال نخوض المعارك ذاتها، ولا نزال نحاول تخطي قضايا تقف في وجه الابتكار». والمثير للسخرية في قضية تسريب التقرير مفارقتان: الأولى أن موقع BuzzFeed الذي ظهر عام 2006، وتعتبره التايمز في تقريرها منافساً أفقدها كثيرين من زوارها، هو الذي نشر التقرير المسرب. والمفارقة الثانية هي أن ال «تايمز»، لم تعلق على التسريب حتى حين كتابة هذه العجالة. وكتب تيموثي لي من موقع «فوكس»،VOX، أن هذا التقرير مؤشر مقلق، خصوصاً أنه يعالج واقع إحدى أكبر صحف أميركا والعالم. ويضيف لي أن ابتكارات (مثل الإنترنت) تقضي على سابقاتها (الصحف المطبوعة)، ما يخلق سوقاً جديداً بدل السوق القديم، وعلى ال «تايمز» أن «تبرع في الإنترنت كي تنجح في هذا التغير الدراماتيكي». بعد عقدين من النشر الإلكتروني، تبقى ال «تايمز» في التوصيف المالي، نشرة مطبوعة أولاً، ورقمية ثانياً. وستبقى هكذا لسنوات عدّة. فالموقع الإلكتروني يدر اقل من ربع مدخول الشركة.