لا تزال الأسباب الكامنة والدوافع العميقة وراء الاضطرابات العنيفة التي اجتاحت بريطانيا أخيراً، موضع تفسيرات عدة وآراء متباينة. ومما يزيد الأمر غموضاً أن مثيري الشغب أنفسهم لم يلوحوا بأي لافتات ولم يرفعوا أي شعارات ولم يرددوا أي هتافات. كما أنهم لم يتظاهروا ضد أي سياسة حكومية معينة، مثلما حدث في تظاهرات الطلاب في لندن الشتاء الماضي. كذلك لم يسعوا لترويج آرائهم أو مطالبهم، إن كانت لديهم بالفعل أية آراء أو مطالب. وما يضاعف الحيرة أيضاً أنه لم تظهر أية مؤشرات على أن تلك الاضطرابات كانت بدافع عنصري. كما لم تظهر مؤشرات على أن مشاركة هذه الأعداد الكبيرة من الشباب فيها كانت بدافع التضامن مع الشاب الأسود القتيل، ولو أن هذا قد يكون عاملاً بالنسبة إلى بعض المشاغبين، وتبين أيضاً أن شباناً من البيض والسود قاموا بهذه الاضطرابات، معاً أو بصورة منفصلة. والواقع أن هذه الاضطرابات لا يمكن تفسيرها أو حتى مجرد فهمها بالنظر إلى مجرد توافر محدداتها السياسية ودوافعها الاقتصادية، وإنما إلى عوامل نفسية وسيكولوجية عميقة الأغوار في الشخصية الإنسانية، تتمثل في نزعة الأفراد إلى «تقليد ومحاكاة» سلوك الآخرين. فحسب وكالة «اسوشيتدبرس» للأنباء تورط بعض المشاركين في احتجاجات لندن لمجرد المشاركة و «الاستمتاع»، حتى أن البعض تداول رسائل نصية على الهواتف النقالة تقول: «تعالوا وشاركوا معنا في هذه المتعة». وهو ما أعاد إلى الأذهان تصريح أحد الفتيان المشاركين في أعمال الشغب التي اكتسحت باريس ومدناً فرنسية أخرى في تشرين الأول (أكتوبر) 2005، بعد مقتل الفتيين (بونا تراوري وزياد البنا)، إذ لخص هذا الفتى (15 سنة) وصف روح العدوى المستغربة، في حوار أجرته معه صحيفة «نيويورك تايمز» بقوله إنه في البداية كان مصرع الفتيين البريئين «حجة وجيهة» للقيام بأعمال الشغب، لكن بعدئذ اختلف الأمر، إذ صار إشعال الحرائق في السيارات «متعة». ومنذ زمن بعيد قال أرسطو: «أهم ما يتميز به الإنسان على ما دونه من الحيوانات، كونه أكثر المخلوقات في العالم قياماً بالتقليد». وفي 1978 حاول عالم الاجتماع في جامعة ستانفورد، مارك غرانوفيتر، تفسير هذه «المحاكاة» – مستلهماً ما توصل إليه توماس شلنغ من منهج في العلوم الاجتماعية يقوم على «الفيزياء الذرية»، فرأى أن كثيراً من الناس لا يبدأون الشغب (الاحتجاج/ الثورة) بلا سبب، لكن غرانوفيتر افترض أن الناس قد يشاركون فيه إذا وُجدت الظروف المناسبة التي تدفعهم إلى ذلك. بمعنى أن لكل فرد «عتبة» ما تجعله لا يشارك في الفعل إلا إذا اجتازها. غير أن المحاكاة الاجتماعية، على كل ما فيها من منافع، يمكن أن تخرج بالناس عن سلوك المنطق السليم. يقول البروفيسور البريطاني جون بيتس، الباحث في علم الجريمة والعصابات، إن النهب يجعل «أشخاصاً ضعافاً يشعرون فجأة إنهم أقوياء، وهذا يفقدهم صوابهم»، مشيراً إلى «أن الأعداد مهمة جداً خلال الاضطرابات، ولحظة التغير الحاسمة تأتي عندما يشعر المشاغبون أنهم هم الذين يسيطرون على الوضع»، مضيفاً: «أنت لا تستطيع أن تشاغب من تلقاء نفسك. وشغب شخص واحد لا يعدو كونه نوبة غضب. ولكن عندما يجابه جمهور كبير الشرطة، يدرك في لحظة ما أنه يسيطر على الوضع». ويرى عالم النفس الدكتور لانس ووركمان أن رؤية أشخاص ينجون بأفعالهم يمكن أن تعمل كدافع يحرك آخرين للشروع في النهب. وقال: «البشر هم أفضل الكائنات المقلدة على كوكبنا. ونحن نميل إلى محاكاة ما هو ناجح. ولدى مشاهدة أشخاص يخرجون من متجر وهم يحملون سلعاً، فإن نوعاً معيناً من الأفراد سيعتقد أنه يستطيع هو أيضاً أن يفعل بالمثل». فخلال أيام الاضطرابات الأخيرة في لندن، نقلت محطات التلفزيون مشاهد غريبة، مثل أشخاص يدخلون من دون خجل إلى متجر ثم يغادرونه وهم يحملون جهاز تلفزيون أو هاتفاً نقالاً أو ما إلى ذلك. وكثيرون من الذين شاركوا في النهب لم يبالوا حتى بإخفاء وجوههم أثناء قيامهم بالسرقة. بل إن بعضهم وقفوا أمام مراسلي وسائل الإعلام لالتقاط صور لهم، وهم يعرضون بتباه ما سرقوه. وكانت الأجواء في بعض الأماكن والأحايين تعبر عن فرحة عارمة. * كاتب مصري