وضع مبتكرو الإنترنت، ثم أنصاره المتحمسون، نصب أعينهم إنشاء «مجتمع الإعلام والتواصل العالمي»، وأوكلوا إلى ابتكارهم تحقيق الغاية المرجوة هذه. ومشت في ركاب البنية التقنية الجديدة مقالات رفعت هذه البنية إلى أعلى عليين، ومثّلت بها على قرب إنجاز يوتوبيا الشفافية، وأملت من طريقها نسج عروة اجتماعية قوامها وحدة الضمائر وتآخيها العميق. وتقع هذه المقالات بين الأيديولوجيا واليوتوبيا، وهما تشتركان في العبارة عن أبنية الخيال الاجتماعي وتناولها مشكلة جوهرية هي إبهام السلطة واستغلاقها على الفهم والنظر. ويفترض دعاة الإنترنت أن البنية التقنية الجديدة تحقق، على خلاف السلطة المحتجبة، ظهور الوجدان وتجليه لنفسه وحضوره من غير قناع. وعلى هذا، فالفرد هو حصن مقاومة بإزاء الدولة المنكفئة والقامعة، وهو خلية نظام فاضل. وهذه الصورة أيديولوجية. فهي تمجد الواقعة التقنية، وتعلي مكانة العبارة الشفافة عن النفس، وتنزلها منزلة التعويض التام عن قصور المجتمع الأخلاقي والسياسي. والتباس الصورة الأيديولوجية عن الشفافية تعود إلى مصدر غالباً ما يغضى عنه، ويهمل التنويه به، هو «الترانساندانتالية» الأميركية. وتبلورت هذه في حركة أدبية وفكرية وثقافية بكونكورد القريبة من بوسطن، في 1893، عن يد رالف والدو إيميرسيون وناديه بكمبريدج في ماساتشوستس، ومشايعة هنري ديفيد ثورو وولت ويتمان ومارغريت فولِّر وبرونسون ألكوت. ومنذ بعض الوقت، ينبّه عدد كبير من الكتاب إلى مكانة هذه الحركة المركزية في الثقافة الأميركية. واتصلت آثارها وأصداؤها إلى اليوم من طريق ال «بيت جينيريشن» «والهيبيز». والثقافة النقيض أو المضادة، وهي الحركة الجماهيرية الأميركية التي غلبت على ستينات القرن الماضي، انتسبت من غير مواربة إلى ثورو. وأرى أن تمجيد العبارة الصريحة والمباشرة عن النفس على الإنترنت إنما مصدره اليوتوبيا الديموقراطية «الترانسانداتالية». وبعض حوادث سيرة ثورو هي قرائن على الدور الذي اضطلعت به أفكاره في ثقافة الستينات، وتضطلع به اليوم في أيديولوجية الشفافية. فهو اعتزل الحياة الأميركية سنتين وشهرين ويومين في كوخ قريب من بحيرة والدين (ولاية ماساتشوستيس)، وقامت الوحدة مقام الحياة الاجتماعية التافهة. وكانت طريق ثورو إلى سبر فرادته. وهو قضى ليلة في السجن عقوبة على رفضه تسديد ضرائبه. وحمل رفضه على ولادة العصيان المدني الذي ألهم مارتين لوثر كينغ جونيور نهجه، وألهم غاندي قبله. وهو كافح في سبيل الإقرار بمكانة الهنود، وضد عبودية السود. وأولت الحركة النساء مكانة عالية. فالمساواة بين الأعراق، وبين الجنسين، شاغل بارز من مشاغلها. وبعثت الثقافة المضادةُ الترانساندانتاليةَ من تحت ركام البراغماتية، فلسفة الولاياتالمتحدة «الرسمية». وأيديولوجيا الإنترنت هي بنت هذا النهج. وفي وسع الباحث اقتفاء المحاور الفكرية التي تقود من إيميرسون أو ثورو إلى نوربرت فيينير (رائد السيبيرنتيقا والمعلوماتية) وستيف جويز (أول رواد الكومبيوتر) أو بيل غيتس. ويجمع هؤلاء، على اختلاف الأوقات والمشاغل، طلب انكشاف الضمائر بعضها على بعض، وتآلف الأنفس والعقول والقلوب، وإنكار الفصل التقليدي بين دائرة العام ودائرة الخاص والحميم. ويجمعهم، فوق هذا كله، تمسك قوي بالقيم الديموقراطية. وهذه الأفكار والمعايير رعت ولادة الإنترنت. ومنها تحدرت قوته اليوتوبية وحدوده الأيديولوجية معاً. وترجع الذاكرة إلى صحيفة «لوموند» الصادرة في الأول من تموز (يوليو) 2000، وفيها دعاية شباك إنترنت جديد جاء فيها «أنا ما أعرف وما أحس وما أرى. أنا ملايين من البشر، ونحن جميعاً إنترنت». وهذا وعد ببلوغ وجدان كوني تذوب فيه الأنا الفردية المعرَّفة بواسطة الحس والعلاقة والمعرفة، وتدرك نفسها مباشرة ومن غير وسيط. والشبه قوي بوصف إيميرسون حال النفس الواقعة في شباك الامتلاء: «أصير عيناً رائية نفسها، ليست بشيء، أرى كل شيء، مياه الكائن الكوني تجري فيّ». والترانساندانتالية تنهض على اعتقاد نصف فلسفي ونصف ديني بوحدة العالم الروحانية. وهي تؤمن بوحدة الإيمان والعقل، وتفضي إلى برنامج عملي سياسي. ففي كل كائن نواة عميقة، والطبيعة واحدة(...) والمادة والعلاقات السطحية حاجز يتستر على الجوهر الكوني والمفارق. ولعل التطلع إلى معرفة سر الأشياء الدفين والخفي هو مصدر اكتشاف الحاسوب في الستينات عن يد الفريق الذي تحلق حول ستيف جوبس: «الانتشاء جزء لا يتجزأ من السعي في الشفافية التي تُري حقيقة الأشياء». والمرء الفرد لا ينخرط في الكوني إلا من طريق حريته، أي إيجابه من هو في قرارة نفسه ووجدانه، ومن هو في ميزان السياسة. وهذا ما وصفه ستانلي كافيل ب «الكمال الخلقي». ومعياره معرفة إذا ما كان «صوتي في العلانية هو صوتي في سري وطويتي، وإذا كان الصوت الذي أجهر به حين أقر بأن مجتمعاً هو مجتمعي ويتكلم باسمي، هو صوتي أنا، صوتي الخاص». ويقتضي ترجيح كفة هذا الجزء مني تقديم الثقة في النفس على متابعة سواد الناس على رأيهم. وما يثبته إيميرسون للفرد هو فرادته القاطعة. وينيط بها وبتفتحها ارتقاء الواحد إلى مراتب العبقرية والبطولة والشرف والقيام بالنفس. وهو يذهب إلى أن انشقاق الولاياتالمتحدة، وإعلانها «حكمها الذاتي» باسم حق شعبها في اختيار الحكم يصدق على الأفراد وعلى الأجسام الاجتماعية والسياسية معاً. ومماشاة رأي عام مشترك وواحد هو مرض من أمراض الحداثة، ويصد الأفراد عن التفكير بعقولهم، ويدعوهم الى الميل حيث يميل الجمهور، ونسيان أن واحدهم كائن حر ويتمتع بكيان معنوي فريد. ويتصل الانقطاع من أطر الحياة العادية والتقليدية، شأن الذين يديرون ظهرهم للسنن الاجتماعية والعملية فيقضون الساعات الطويلة وهم يعتلون أمواج الشبكة وتياراتها، والاحتجاجُ عليها، بأسطورة الطريق والسفر على غير هدى أو علم سابق بمحجة يقصدها المسافر وييمم شطرها. والهجرة نواة الحركة الثقافية الأميركية، على خلاف نازع أوروبي قوي إلى مسقط الرأس والتجذر في موضع أو ديرة. وغوص الأميركي في أركان كيانه لا يدعوه إلى الحنين إلى أميركا «أصلية» يحمل لواءها رجال عظام من الماضي، بل يحمله على استجلاء وجه الغريب في نفسه، وشق الطريق أمام أعلام الديموقراطية المقبلة وروادها. والعَلَم على الرواد والريادة هو كريستوف كولومبوس. وعلى هذا المعنى ينبغي فهم القول إن أميركا هي أمة «فتية» وعلى الأميركيين ابتكارها. وهو شعار «جيل 2.0» على قول الناشر تيم أورايلي في 2004 معارضاً الموسوعة البريطانية أونلاين «واحد.صفر»، بموسوعة ويكيبيديا على «الويب2.0». وثقافة الإنترنت، على مثال الترانساندانتالية، معيارها حق كل جيل جديد في تملك العالم وحيازته بدوره. وهو معنى «ستارت – آب» للكناية عن الشركة الصغيرة الناشئة في مضمار الإلكترونيات المعلوماتية، والمبادرة إلى العمل السريع واللماح والمناسب من غير تردد. وليس التمرد رفضاً خالصاً. فهو لا يتم إلا بإنشاء ثقافة موازية، وإرساء جماعة حقيقية أركانها الحرية والمساواة والأخوة. فحرّية التعبير عن الرأي يلازمها تمكين الواحد من إسماع صوته على الملأ، ويترتب عليها كسر الجدار الفاصل بين العمومية وبين الخصوصية. على هذين الركنين تنهض رابطة اجتماعية جديدة. ويشبه الأفراد بعضهم بعضاً من وجه واحد هو رغبتهم في التواصل وفهم دنياهم، وبلوغ أصواتهم الفضاء الجامع، وبناء ديموقراطية مشتركة. والقرابة بين المثال الجيفرسوني هذا وبين مثال الإنترنت قوية. فالصدارة، في الإنترنت، إنما هي للحريات الفردية والتعدد والتنوع وروح الشراكة. ومسوغ الضالعين في الشبكة، وفايسبوك هو الفصل الأخير (إلى اليوم) من ضلوعهم، هو نفسه ذريعة المؤمنين البروتستانتيين المطهرين (البيوريتانيين): فهؤلاء وأولئك، وهم يتحدر بعضهم من بعض، يجهرون معاً أنهم لا يتسترون على ما قد يخجلون به، ولا يفعلون ما يدعوهم إلى الاستتار والخجل. وينيط أصحاب مشروع أو خطة «هنا والآن» المعروفة ب «البيت الأزرق الكبير» (وتقضي بإقامة 5 أصدقاء معاً تحت عدسات 9 آلات تصوير مصوبة إلى مواضع السكن كلها، ويستضيف «الأصدقاء» العالم إلى «بيتهم»، وهم متصلون به 24 ساعة في اليوم من طريق الانترنت) ينيطون بالإنترنت تعدد مسارح الحياة، والتمتع بحيوات كثيرة ومتوازية معاً. وعلى خلاف الحركة الثقافية الأميركية، يزعم مثال الإنترنت العلني أن في وسع معايير الشبكة الاجتماعية، مثل فايسبوك، الإحاطة ب «المشترِك» من وجوهه كلها. فإذا هو أعرب عما يهمه ويشغله، وتعريف حاله الغرامية، وكشف ميوله الموسيقية، وأذاع لائحة كتبه المفضلة، وأحصى عدد أصدقائه، انجلت هويته تامة من غير نقصان. وهذا ما لا تزعمه الترانساندانتالية الأميركية، وهي التي تثبت للواحد وهويته نواة لا تدرك ولا تبلغ. وأما من وجه آخر، فالفكر السياسي الأميركي والديموقراطي يتصل من طرق كثيرة بالفكر الاقتصادي النيوليبرالي. والشفافية المفترضة هي شفافية المبادلات، والمبادلات موضوعاتها ومواردها هي السلع، والمبيعات والمشتريات. وليست اللغة، ومعها الاتصال، إلا من تخصيصات التجارة الكونية ومبادلاتها. وتعطل هذا الرأي أو المذهب ثلاث حقائق هي ثلاثة قيود على صدق أركان الشبكة: «الذات» ليست شفافة، والإنترنت ليست وسيط تعبير بلوري، والذات التي تجلوها الشبكات الاجتماعية ليست صورة دقيقة أو أمينة عن مواطن الديموقراطية. * أستاذة في الفلسفة السياسية، عن «إسبري» الفرنسية، 7/2011، إعداد منال نحاس.