الكاتب الليبي الساخر علي مصطفى المصراتي له لازمة، يعيدها كلما سألناه عن صديق من الأصدقاء هي: - ما زال عائشاً يتلفت. باعتبار أن قدر المواطن العربي أن يقضي حياته يتلفت حوله كلما أراد أن يهمس بكلمة لصديق تتناول شأناً عاماً، خشية أن تقع الكلمة في إذن عون من أعوان الحكومة وجواسيسها الكثر فيحصل ما لا يحمد عقباه. وفي حين اختفت عادة الالتفات من حياة المواطنين في أغلب شعوب العالم، بعد أن اكتسحت التحولات الديموقراطية أجزاء كثيرة من عالمنا المعاصر، فان أقطار الوطن العربي ظلت تحتفظ بهذه الخاصية، وظل المواطن يخطف الكلمات خطفاً، ويقولها همساً، ويتوقع أن يأتي من يستدعيه الى زيارة قصيرة لدى أمن الدولة لخمس دقائق تدوم غالباً خمس سنوات إن لم تدم الى آخر العمر، وتحول هذا الالتفات الى اليمين والشمال الى قناعة نتربي عليها بأن الإنسان كائن يتلفت. وهي عادة نأمل مع الإعصار الغاضب الذي حركته مثل هذه الممارسات، وكان مبعثه مثل هذه الانتهاكات لحقوق المواطن والعدوان على حرياته الخاصة والعامة، أن تنتهي سريعاً، لينظم المواطن العربي الى بقية أعضاء المجتمع الإنساني الذين يتكلمون من دون التفات للشمال واليمين والخلف. والحقيقة التي يعيها كل مواطن عربي، هي أن أجهزة أمن الدولة تورمت وتغولت وهيمنت على فضاءات حياته حتى سدت منافذ النور والهواء، ونصبت جدرانها حوله شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، وقد بدا الأمر مع الدولة القطرية العربية، كما هي الحال مع دول العالم، بأن تكون للدولة أجهزة لإدارة الدولة ودواليبها، بينها جهاز للأمن، إلا أن الحال اختلفت في العقود الخمسة الأخيرة التي تميزت بانتهاء الشرعية الدستورية وفصل السلطات وفتح الطريق لشرعية البيان الأول الذي يقوم بإلقائه ضابط استيقظ عند الفجر وركب دبابة استولى بها على الإذاعة ومن خلالها على السلطة ونصب نفسه حاكماً واحداً فرداً لا شريك له، واحتاج بالضرورة الى تثبيت سلطانه بالقوة والعنف، فاعتمد على ذلك الجهاز الذي اكتسب اسمه من مهماته التقليدية في حفظ أمن الدولة والمواطنين، واختلفت مهمته مع هذا الحاكم الانقلابي وتحولت الى حفظ أمن الحاكم وترويع أمن المواطنين، وكان لا بد لهذا الجهاز أن يتضخم الى حد أنه لم يعد جهازاً لأمن الدولة وإنما صار جهازاً، كما يقول المفكر السوري الطيب تيزيني، يبتلع الدولة كلها في جوفه، وتتغير المعادلة وتصير الدولة بكل سلطاتها دولة الأمن بدلاً من أمن الدولة، تعمل وفق قاعدة مفادها تأكيد أمن الحاكم مقابل ضياع أمن المواطن، ولم يعد سراً أن دولة ريعية كما هي ليبيا، صار بإمكان الحاكم أن يعين شرطياً لكل مواطن، وهناك أجهزه للأمن السري، بمسميات مختلفة، فاللجان الثورية ومراكز اتصالها المسماة في ليبيا مثابات، ليست إلا أجهزة للأمن والتجسس، البعثات الديبلوماسية هي الأخرى ليست إلا أجهزة للتجسس لأن تسعة أعشار العاملين بها يوفدون من الأمن الخارجي والأمن الداخلي واللجان الثورية ولا يبقى إلا معشار العاملين في الجهاز من الديبلوماسيين، أغلب العاملين في الأجهزة الإعلامية مثل وكالة الأنباء ومكاتبها في الخارج من الأمنيين، كما أن هناك هيئة إسلامية لها فروع في كل بلد من بلاد العالم اسمها جمعية الدعوة الإسلامية، هي الأخرى ليست إلا ذراعاً من أذرعة الأمن، كذلك شركة الخطوط الجوية الليبية ومكاتبها بالخارج ولم يكن غريباً أن ينحصر الاتهام في قضية إسقاط طائرة البان أميركان فوق لوكربي، في عدد من العاملين بمكتبها في مالطا وهم فحيمة والمقرحي وآخر اسمه جعاكة شارك في المحاكمة باعتباره شاهداً، كما أن أغلب العاملين في شركات الاستثمار الخارجي من أعضاء الأجهزة الأمنية، كذلك العاملين في ما يسمى المراكز الثقافية، والملحقات التعليمية، بل ثلاثة أرباع الموفدين في بعثات للدراسات العليا هم أيضاً من الأجهزة الأمنية الذين يتولون الجوسسة على زملائهم وعلى أعضاء الجالية الليبية في الخارج، وهكذا كان الحاكم الفرد الذي لا شريك له في الحكم يعتمد على أذرعته ومخالبه وبراثنه وأنيابه الأمنية للدفاع عن الكرسي الذي قرر أن يجلس فوقه الى الأبد ثم يقوم بتوريثه لأبنائه من بعده، ولا ينافس الحاكم الليبي إلا حكام الجملوكيات العربية مثل عراق صدام وسورية الأسد ويمن عبد الله صالح، ويذكر أن الأجهزة الأمنية المعروفة والمذكورة في دليل الهاتف في سورية 18 جهازاً، غير الأجهزة الأخرى التي تتسمى بأسماء كودية مثل فروع حزب البعث في الداخل والخارج وبعثاته السياسية والثقافية والتجارية، ولا ينافس الأجهزة الأمنية البوليسية إلا الأجهزة العسكرية التابعة للجيش، التي تحولت في سورية الى ما كان يسمى سرايا الدفاع التي لم تكن وظيفتها حراسة الحدود ولا حماية البلاد من عدوان خارجي، وإنما حراسة الحاكم ومحاربة معارضيه كما حدث في مذبحة حماة على أيدي سرايا الدفاع عام 1982 والتي اتخذت في ليبيا اسم كتائب الأمن التي تقصف المدن الليبية على رؤوس أهلها كما حدث منذ بداية الانتفاضة في ليبيا عندما هدمت مدن الزاوية وزوارة ومصراته والزنتان وأجدابيا والبريقة ونالوت ويفرن وجادو وقتل أهلها أو شردوا، وهذان الحاكمان في سورية وليبيا يفعلان ذلك بعد أكثر من أربعين عاماً من الجلوس على عرشين مصنوعين من مآسي شعبيهما، حيث يمثل الحاكم في سورية امتداداً لحكم والده واستخلافاً له، بينما استمر السيد العقيد طوال هذه المدة يسيطر بمفرده على مقدرات ليبيا ويحكمها بالحديد والنار حكماً فردياً تسلطياً، كتم خلالها أنفاسنا فلا أحد منا ينطق بكلمة نقد أو احتجاج، وكبل أيدينا بسلاسل الحديد وأغلق حناجرنا بالطين، وكنا إذا اختلينا بأنفسنا ووجدنا مساحة للشهيق والزفير بعيداً عن عيونه وجواسيسه، حاولنا أن نفرج عن أنفسنا بذكر ما نعانيه من آلام وأحزان في شكل شديد التكتم والسرية، وحدث أكثر من مرة أن وجدت نفسي ألومها لأنني أعيد اجترار ما سبق أن قلته عن حالات الكبت والقهر والانتهاك لحقوق الإنسان التي نعاني منها، فكان الرد البليغ الذي سمعته من صديق أديب، وأراحني وجعلني لا أخجل من تكرار الشكوى، واجترارها هو: - وهل نلوم إنساناً يعيد قول «أي أي أي» تعبيراً عما يحس به من ألم، من حقنا جميعاً أن نكرر هذه «الأي» بمختلف التلوينات، حتى تنتهي أوجاعنا بانتهاء هذا النظام. المشكلة أن هذا النظام ظل جاثماً بكابوسه فوق الصدور اثنين وأربعين عاماً ولا يزال، وان الصديق الأديب الذي قال لي هذا الكلام غادر هذا العالم قبل أن يغادر النظام حكم البلاد، وهو ما تكرر مع أصدقاء كثيرين حالهم حال هذا الصديق تألموا واشتكوا وغادروا الحياة بينما بقي النظام الذي حلموا بأن يروا ساعة رحيله من دون أن يرحل، وبين هؤلاء الأصدقاء زميلنا الصحافي رشاد الهوني، الذي كان يقول كلما ضحك ضحكة من القلب، جملته التي يذكرها له أصحابه وهي: - صدقوني لم أضحك مثل هذه الضحكة منذ يوم الأول من أيلول (سبتمبر) 1969. إشارة الى بداية تاريخ الألم والمعاناة، مع النظام الانقلابي الإجرامي الدموي، الذي انتزع من رشاد الهوني الصحيفة المتميزة التي أصدرها في بنغازي «الحقيقة»، واضطر في ما بعد أن يهاجر بمواهبة الى لندن لإصدار صحيفة أخرى في ارض الغربة، وها هي الآن فقط تأتي الأخبار من بنغازي أن صحيفة «الحقيقة» استأنفت الصدور بعد أن توقفت أكثر من أربعة عقود على يد جيل جديد من الصحافيين. وكان شيخ الأدب الشعبي أستاذنا الحاج محمد احقيق، من أهل التصوف والعلوم العرفانية، وكان النظام الانقلابي قد قوض كل ما قام به من جهد في إرساء قاعدة للأدب والفن الشعبي مثل فرقة الفنون الاستعراضية ومراكز الفن والأدب الشعبيين، وكان يشعر أن لديه ثأراً مع حكم الجهالة والإجرام، ولم تكن قد مرت غير خمسة أعوام على عمر الانقلاب، عندما جاء يقول، بأن الفرج قد جاء، وأن أولياء الله، الذين يحمون هذا الوطن، قد قرروا رفع الغطاء عنه وسحب المباركة التي منحوها له، وقد قاموا بانتزاع البردة التي سبق أن وضعوها فوقه، ولهذا فان النهاية قد أزفت، وكان للحاج احقيق عقيدة مفادها «أن ليبيا ترابها ساخن، وأن هذا التراب لا يحتمل أحداً يعيث خراباً وفساداً وظلماً في البلاد» إشارة الى أهل الصلاح والولاية المدفونين في أرضها، ممن سيجعلون الأرض تهتز تحت أقدام من يهزأ بتاريخ البلاد ودماء الشهداء الذين حرروها، ويسوم أهلها العذاب والظلم، وكنت أغيظه فأقول له، أن نظاماً إبليسياً مثل هذا النظام، لن يضيره أن يغضب أهل الصلاح، ما يهمه هو غضب أسياده الأمريكان، فقل لي متى ترفع عنه وكالة الاستخبارات الأميركية الغطاء، وتنزع عنه بردة المباركة، لأقول لك متى ينتهي. وفعلاً لم ينته النظام في ذلك العام الذي حدده الحاج، صاحب البشارة هو الذي غادرنا الى الرفيق الأعلى، ليبقى النظام عائشاً بعده أكثر من ثلاثين عاماً، كل ما حدث للنظام في ذلك العام هو انشقاق للصف حدث بين أعضاء الانقلاب، في المؤامرة التي قادها المرحوم عمر المحيشي وانتهت للأسف الشديد بالفشل والإخفاق ونتج منها إعدام 26 ضابطاً شاركوا في تلك العملية الاحتجاجية التي اسماها النظام مؤامرة. وظل السيد العقيد جالساً فوق عرشه الذي ينتصب فوق جبال من الجماجم، يزداد ارتفاعاً وضخامة بفضل ما يضيفه كل عام، وأحياناً كل يوم، الى هذا الجبل من جماجم وهياكل عظمية للضحايا من أبناء شعبه، وغير أبناء شعبه أحياناً. ويبدو غريباً كيف استطعنا أن نتعايش مع هذا النظام كل هذه الأعوام، ونتحمل الغصص ونصبر على الكوارث، ولا نملك إلا أن نحترق ونتعذب في صمت ونحن نرى نظاماً أو حاكماً لا يكتفي بإهمال واجبه في تنمية الوطن وترقية المجتمع والمحافظة على أمن وأمان المواطنين، وإنما يقوم بنقيض ذلك، ويمارس أعمالاً تتعارض في خط مستقيم مع التفويض الذي تأتي بموجبه الأنظمة لحكم بلدانها، فبدلاً من تنمية ولاء المواطن لوطنه وغرس قيم الحب والوفاء له، كان رأس النظام يصدر النداء وراء النداء لمواطني ليبيا بأن يخرجوا منها مهاجرين الى أرض سواها، لأنها لا تصلح لإقامتهم ولا تملك شيئاً من مقومات الحياة وكأنها أضحت فجأة مريخاً أو زهراء لا تصلح لحياة البشر الذين عمروا هذا الجزء من العالم لأكثر من مليون عام، وعندما رآهم يقابلون هذا النداء بالإهمال والرفض، عمد الى اتخاذ إجراءات إجرامية جهنمية ضد هؤلاء المواطنين، قد يجد القارئ صعوبة في تصديقها، وأنا لا ألومه في ذلك لأنها فوق مستوى العقل والمنطق، ولا أقول له إلا أن الأدلة على صدق ما أقول متاحة بفضل الانترنت لكل باحث عنها، وعليه أن يتأكد بنفسه من صحة قولي عبر التقليب فيما هو موجود في هذا الفضاء الافتراضي من مواد، بعضها شهادات لشهود من قلب الحدث، وكنت أجد صعوبة شخصياً في تصديق أن النظام كان وراء حقن خمسمئة طفل في بنغازي بفيروس الإيدز، أو تصديق أنه قام بنفس العمل مع شباب كان يحتجزهم بحجة تعاطي المخدرات في هناجر تاجوراء، وأجد صعوبة أكبر في تصديق أن النظام كان وراء عملية تفجير طائرة مدنية في رحلة داخلية من بنغازي الى طرابلس ذهب ضحيتها مئة وسبعين امرأة ورجل، وأجد صعوبة كذلك في تصديق انه أرسل كتيبة الحراسة من مركزها في معسكر القيادة بباب العزيزية، الى المدينة الرياضية عام 1996 فقتل أكثر من خمسين متفرجاً جاؤوا مباراة لكرة القدم لا لذنب ارتكبوه إلا لأن الزعيم لم يكن يحبذ هذه الرياضة ويهجو في كتابه الأخضر مثل هؤلاء المتفرجين الأغبياء الذين يجدون تسلية في شباب يضربون كرة مليئة بالهواء، وهو نفس العام الذي حصلت فيه مجزرة أبو سليم التي تكرر ذكرها في كتاباتي وكتابات غيري وسأتجاوزها الى جرائم يندر ذكرها ربما لأنها أكثر التباساً وأقل وضوحاً من هذا الشر الذي لا يغطيه أي ستار. وسأحاول أن أكشف الستار هنا عن بعضها، وإحداها جرائم المياه المالحة والملوثة التي أصر على أن تبقى قدر الليبيين لسنوات عدة لا يجدون غيرها في شبكات المياه، وقد كتبت إحدى الجمعيات الدولية في شأنها تقريراً لبلدية طرابلس، تحذر فيه البلدية بعد أن قامت بفحص المياه المأخوذة من حنفيات طرابلس، بأن استمرار مثل هذه المياه يقتضي شراء كميات كبيرة من سيارات نقل الموتى لأن تضاعف الوفيات هو النتيجة الحتمية لاستخدام هذه المياه في الاستهلاك البشري، وكانت بلدية طرابلس قد تعاقدت على شراء محطة لتحلية مياه البحر، ويبدو أن رأس النظام لم يأخذ علما بها إلا بعد أن تم تصنيعها وتحميلها على سفينة قاصدة طرابلس، فغضب عند سماعه بالخبر وأمر بطرد عميد البلدية، وأمر بأن تذهب السفينة الى مالطا، لتعطي المحطة هدية لأهلها ولا تزال هي التي تسقي جزءاً كبيراً من الجزيرة، بينما أمر أن تغذي شبكة مواسير المياه في طرابلس مباشرة من البحر وليس من الآبار ذات التلوث والملوحة لأنها أكثر احتمالاً من ماء البحر، وليتفضل بالتصديق من يريد التصديق، ومن لا يريد فان كل ما أقوله له أنني كنت شخصيا وأنا أتلقى هذه المياه في بيتي استغرب لملوحتها الى أن أبلغني موظف في مصلحة المياه أن الشبكة كلها مفتوحة على مياه البحر مباشرة بأوامر القيادة، ومن لا يعجبه الأمر فعليه أن يلبي نداء القائد بالهجرة من ليبيا التي يسميها بلاد السباخ المالحة، وها هو المصداق على كلامه يأتي من المياه التي تدخل الى بيوتنا محملة بالأحياء المائية الدقيقة. وطالما وصل حديثنا الى البحر، فالسيد الزعيم لا يريد أن يصادر حق الليبيين في الاستمتاع بحاضرهم وحرمانهم من ثروتهم التي تستخرج الآن من باطن أرضهم وهي ثروة النفط التي لم يكن شيئاً يصل منها الى المواطن، ولكنه يريد أن يصادر المستقبل وما يمكن أن تأتي به الأرض من ثروات فيما يأتي من أعوام وقرون، وباعتبار أن النفط ثروة زائلة وأن هناك موارد سينتبه الليبيون للاستثمارها من بينها المؤهلات السياحية وجمال الشاطئ وبهاء الطقس الذي يشجع على ارتياد هذا الشاطئ، فقد اخترع مشروعاً اسماه تحصين الشاطئ وتأمينه، وهو تعبير يمضي مباشرة الى استغلال هذا الشاطئ وتأمينه بالعمران ليعود شاطئاً مأهولاً عصياً على الاختراق من عصابات تريد أن تتسلل الى الوطن كما نرى فيما حدث من عمران في الساحل الشمالي لمصر، ولكن الفكر الشيطاني يقول شيئاً آخر عن هذا التحصين والتأمين، فيتعامل مع الشاطئ كأنه يتعامل مع أرض عدوة يسكنها الأشرار والمجرمين من خصومه، فيعمد الى مشروع بدأ في تنفيذه هو زرع الألغام على امتداد الشاطئ الليبي وصرف بلايين الدولار لجلب ألغام صار سوقها نادراً لأن العالم صار يسعى لتخليص نفسه منها، فيحاول شراءها من كل مناطق العالم، وجلب شركات لزرعها، وقد استطاع تلغيم أماكن كثيرة من المنطقة الوسطى للبلاد، وما زال ساعياً لأداء هذه المهمة، إدراكاً منه أن مستقبل ليبيا كامن في هذا الشاطئ الذي سيتحول الى مورد رزق في مستقبل الأيام وفي عقود قادمة يكون النفط قد نضب خلالها من البلاد. وقد قام النظام، بتنفيذ هذا المشروع الإبليسي الذي ينسب عادة الى تلك الطاقة الكونية من الشر فيسمى اسماً مقتبساً منها هو» مزارع الشيطان»، لا في وقت الحرب كما هو الحال في مزارع الشيطان التي زرعتها الجيوش الأجنبية إبان الحرب العالمية الثانية في الصحراء الغربية بين مصر وليبيا، ولكن في وقت السلام، ثم عندما جاءت حرب النظام مع شعبه، وجدها فرصة لزرع حدائق الشيطان في أماكن أخرى غير الشاطئ، وهو عمل كان محل إدانة من منظمات دولية عندما قام بتلغيم الجبل الغربي ومصراته وصحراء الواقعة بين أجدابيا والبريقة. وقد لا يصدق القارئ، أن النظام، كان يجلب للبلد مواد مسرطنة عقاباً لهؤلاء المواطنين الذين رفضوا تلبية نداء الهجرة، ولأبدأ بذكر حقيقة يعرفها الليبيون جميعاً، وهي أنه في حين اكتسحت العالم موجة إصدار التشريعات التي تمنع بل تحرم إنشاء الصوبات الزراعية لما ثبت من إمكان أن تتأثر منتوجاتها بمواد مسرطنة تستخدم في هذه الصوبات، بدأ النظام في إدخال هذه الصوبات الى ليبيا وقد كانت خالية منها، وتسهيل استيراها والتوسع في بيعها بتسهيلات وقروض ورفع اية رقابة على منتوجاتها، وطبعاً لا يفتقر البلد الى تجار وأصحاب مزارع جشعين استغلوا هذا الشر والإجرام وانخرطوا شركاء في التربح والكسب الحرام بزيادة المواد الكيماوية الى حدها الأقصى، وتذكر تقارير صحافية وإعلامية موجود بعضها في شبكة الانترنت عن اكتشاف مواد مسرطنة مجلوبة من الخارج، مثل مليوني علبة طماطم من الصين وكمية مماثلة من زيوت الطهي من دون أن يجري أي تحقيق عن كيف جاءت ومن جاء بها وكيف تستمر الشركة التي أدخلتها للسوق من دون عقاب أو مساءلة وكيف تستمر في أداء عملها، ولهذا لم يكن مستغرباً أن تتحدث التقارير الطبية عن ازدياد حالات الاصابة بأمراض السرطان في ليبيا حتى أصبحت اشبه بالوباء من دون أن تبادر الدولة باستقصاء الحالة أو حتى اصدار تقارير من وزارة الصحة عن حقيقة المرض، ولذلك فاننا يجب ألا نستغرب عندما نقرأ الحكاية التالية وهي أكثر الحكايات رعباً في هذا المجال، وأمل أن تخضع هذه المسألة لتحقيق عاجل فور سقوط هذا النظام، ومعاقبة كل من ساهم في ارتكاب هذه الجريمة، وهي ما سمعته من كاتب وأستاذ جامعي ليبي أثق تمام الثقة في صدق روايته، جمعته في ذات مرة مأدبة عشاء أقامها سفير سابق لعدد من رجال الأعمال الأجانب، أبدوا أمامه وأمام السفير استغرابهم، لأن ليبيا قامت بشراء أراض زراعية شاسعة بمناطق في أوكرانيا قريبة من تلك المناطق التي ما زالت تحت تأثير الاشعاع المسرطن للمواد الزراعية وللحيوانات التي يستعمل لحمها للاستهلاك البشري، ولم يكن هناك شك في ذهن الأستاذ الجامعي وذهن صديقه السفير الليبي السابق (وكلاهما موجود في طرابلس الآن) إن المشروع يهدف الى جلب منتجات زراعية ولحوم من تلك المناطق، ما زالت تحمل اشعاعات مسرطنة، وبيعها للمواطن الليبي في إطار مشروع الحكومة للقضاء على هذا الشعب الذي يرفض الاستجابة لنداء الزعيم بالرحيل الى أفريقيا وترك البلاد لقوم آخرين يجلبهم بدلاً منه، وللنبي الكريم سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) حديث يقول فيه: «ولو لم تذنبوا لجاء الله بخلق جديد» ولكن الزعيم الليبي يريد أن يفعل هذا الفعل الإلهي مع شعبه لأنه رأى أنه سيخضع في يوم من الأيام لمحاسبته، ولن يرتاح إلا إذا استبدله بشعب آخر، يدين له بحق الحياة وحق البقاء، وقد سعى لجلب هذا الشعب من مصدرين هما مصر والمغرب ولم يجد موافقة من حكومتي البلدين في مسعاه كما ذكرت بتفصيل أكثر في مقال غير هذا المقال. وها قد صدق حدس السيد العقيد، وما توقعه من أن الشعب الليبي، سينتفض ذات يوم ويخرج من بيوته،عازماً على تصفية الحساب معه، وتوقيع العقاب عليه، و قبل أن يتمكن المسكين من تنفيذ مشروعه بإبادة الشعب الليبي، أو ترحيله الى مجاهل القارة السوداء، وإحلال شعب آخر يدين له بالولاء، ولا يسأله حساباً ولا يطلب منه حقاً ولا باطلاً، كما يفعل هذا الشعب الآن الذي يري أن بلاده تم اختطافها من بين يديه، على يدي السيد العقيد وأيدي عصاباته، ولا بد أن يستردها منه بالقوة إذا شاء، وهو ما مضى لتحقيقه بصبر وعزيمة واستبسال. كان العقيد الليبي مغرماً بإلقاء أسئلة عبثية عما يريده الشعب، من دون أن يعنيه ماذا يكون الرد أو يعير انتباه لما يقوله الشعب أو يريده حقاً، لكنه لو جاء يسأله اليوم عما يريده من وراء هذه الانتفاضة ضده لكان جوابه بأنه خرج لكي لا يحتاج بعد اليوم أن يلتفت شمالاً ويميناً كلما أراد أن يفتح فمه بالكلام. * كاتب ليبي