يجري إغراق هائل في الخطاب الإعلامي والسياسي في الأردن وربما في الدول العربية بعامة بردّ الحالة السائدة اليوم في الدول العربية، من التخلف والفشل الاجتماعي والاقتصادي وغياب التنوير والفكر الإصلاحي، وانهيار التعليم والخدمات الأساسية، وتفكك المجتمعات وارتدادها إلى عصبيات قبلية بدائية، والتشوه الاجتماعي للمدن وتشكيلاتها المكونة، وانحسار الثقافة والفنون، وغياب الموسيقى والفلسفة والفنون التشكيلية والإبداعية من التعليم، والعزل القاسي المتخلف بين الذكور والإناث في المدارس، وما تبعه من هوس ثقافي واجتماعي وانحطاط أخلاقي، والتضييق على الحريات الشخصية والاجتماعية، والاستبداد، والتسلط والهيمنة، وانتهاك الحريات والحقوق الأساسية والتمييز الظالم بين الذكور والإناث في العمل والأجور والمعاملة، والاعتداء على الكرامة والقيم الأساسية المشكلة للمجتمعات والأعمال والمصالح، وتغييب القانون والمؤسسات، يجري تحميل المسؤولية للجماعات الإسلامية والعشائرية والأبوية المستحكمة، وتظهر النخب العلمانية والليبرالية وكأنها ضحية مستهدفة لا حول لها ولا طول. ولكن بالنظرة البديهية إلى تركيبة وواقع قيادات الدول والمجتمع والشركات في الأردن (وربما جميع الدول العربية) لا يمكن ردّ ذلك وغيره كثير إلا إلى مسؤولية ودور النخب السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي هيمنت على السياسة والاقتصاد والثقافة والتعليم لعقود طويلة. وهي بالمناسبة تدعي أنها علمانية وليبرالية، وليست على أية حال «إسلامية» إلا في حالات قليلة جداً، ومن ثم فإن الحملة الواسعة والقاسية التي تشنها النخب لأجل تحميل الإسلاميين والعشائر مسؤولية التخلف الاجتماعي والثقافي والتعليمي لا تكاد تختلف عن اتهام اليهود بأنهم وراء تفجيرات 11 أيلول (سبتمبر)، لأنهم (الإسلاميون) ببساطة لم يكونوا في موقع القيادة والتخطيط للمؤسسات السياسية والاقتصادية والتعليمية والإعلامية والثقافية في الدول العربية. والأسوأ من ذلك فإن القبول الإعلامي والانطباعي بهذه المقولة يبرئ المسؤول الحقيقي عن التخلف والانهيار الثقافي والاجتماعي (والسياسي والاقتصادي بالطبع) الحاصل اليوم، ويجعلنا نحاكم أشخاصاً وجماعات على نياتهم ونحملهم مسؤولية عمل لم يقترفوه، وليس المقصود هنا الدفاع عن الإسلاميين، ولكنها محاولة للفهم وإعادة توجيه السؤال وتحديد المسؤول الحقيقي عن حالتنا الراهنة، وحتى لا يظل الإصلاح موكولاً إلى أعدائه! والواقع أن النخب السياسية والاقتصادية قد أثبتت بنجاح وفاعلية تحسد عليها قدرتها على تحقيق مجموعة من الإنجازات الإعجازية التي يحار الباحث كيف استطاعت تحقيقها، فقد حازت بامتياز صفة العلمانية والليبرالية على رغم أن علاقتها بالعلمانية والليبرالية أقل بكثير من علاقة شيخ الأزهر أو يوسف القرضاوي، وربما والملا محمد عمر. كيف نجحت في تقديم نفسها إلى الغرب والمجتمعات وربما إلى ذاتها بأنها علمانية، وهذا على رغم براءتها من العلمانية براءة الذئب من دم يوسف؟ كذلك فانها استطاعت أن تهمّش المرأة في العمل في الشركات التي تقودها وتملكها (12 في المئة فقط) وبمعدل للأجور يقل عن نصف معدل الرجال، وان تحمل في الوقت نفسه مسؤولية تهميش المرأة وتمييزها المجتمع الذي يرسل بناته إلى الجامعات والمدارس بنسبة تفوق معدل ضعف البنين، أو لجماعات وفئات ليس لهم حصة تذكر في القطاع الخاص والبنوك وشركات الاتصالات. ونجحت في نزع مناهج الفلسفة والموسيقى والفنون والإبداع من المدارس، ويجيبك معظم من تسألهم بأن الإسلاميين هم السبب على رغم أن النخب المدعية الإيمان بالفنون والموسيقى والتنوير هي التي تدير وتهيمن على مؤسسات التعليم جميعها منذ تأسيس الدولة حتى اليوم، وقد فرضت عزلة قاسية بين الطلاب والطالبات والمعلمين والمعلمات موجهة المجتمع إلى عدم التماسك وغياب القدرة على وعي ذاته. فكيف فرضت الاختلاط في الجامعة الأردنية في أوائل الستينات، ثم حولت الاختلاط في الجامعات إلى ثقافة متقبلة وراسخة، لدرجة أن الإخوان المسلمين حينما أنشأوا جامعة في أوائل التسعينات جعلوها مختلطة، وعندما حاول مستثمرون (غير إسلاميين) إنشاء جامعة غير مختلطة فشلت واضطروا لتحويلها إلى مختلطة، الأمر الذي يؤكد أن تغييب الاختلاط في المدارس كان وعياً (علمانياً) لمنع المجتمع من التشكل الصحيح والملائم لاحتياجاته وأولوياته، ولأنها نخب تقوم مصالحها على ضعف المجتمعات وتخلفها، ولا تربطها بالعلمانية والليبرالية إلا ما يمكنها من إقامة نظام إقطاعي نخبوي بالغ القسوة والإغلاق. * كاتب أردني