في رسالة المفكر سي. رايت ميلز إلى إحدى المؤسسات يقول: إن صناعة التاريخ دائماً هي غامضة أو حتى ملتبسة. ولكن حذار من خلط الأوراق. علينا مساعدة قوى التغيير الحية على مكافحة هذا الغموض بطرق سياسية حاذقة وليس من طريق الشعارات الجوفاء المكررة، لا سيما تلك التي ترتدي خامات راديكالية مغلقة. ولكن مهلاً، فهل يمكن اعتبار «سياسة» خلط الأوراق ميلاً تاريخياً للدول ذات النزعات التوسعية أم هي نموذج خاص رتيب من الإصرار على التصدي للمناهج الاكاديمية التي تشرح هذه الميول الامبراطورية وتفضحها. انها حجة الذرائعية في حصافتها المؤسساتية في تلبية نداءات الجمهور الواسع الرافض سياسات استبداد السلاح والمال والمتلازمة مع احتكار الجهالة واللامبالاة! فهذا الجمهور سرعان ما يتجاوز الايقاع العام للسلطة المأجورة في بلد الخيبات المزمنة والمختبر الذي طبّقت فيه كل سياسات الفشل الذريع وتحدثت عنها كتب قيادات الادارة الاميركية السابقة بكل حرص وشفافية متأخرة وكاذبة ونادبة. من هنا، فإن العلاقة الشائكة بين سياسة خلط الاوراق وآلية استمرار «العملية السياسية» تابعة لإطار حكم «الكوندومينيوم» والحاجة المباشرة الى قواه العالمية والاقليمية للحفاظ على ما يمكن الحفاظ عليه في أوقات الاستقرار السياسي النسبية أو لإنقاذ ما يمكن انقاذه في زمن الانفجارات المباغتة. ولنا الحق في أن ننقب عن عقابيل هذه السياسة والبحث عن جذورها في التربة ذاتها التي حققت هذا المصير. إن البناء المنظور لسياسة خلط الاوراق يعتمد على مدماكين من الافكار وتطبيقاتها. وهذا يتلخص: أولاً – السرية في المقاربة ومعالجة المشكلات المطروحة أو المتخيلة ومحاولة تحديد مستقبلها السياسي. ثانياً – العلاقة العضوية المتبادلة بين سيولة عامل الزمن والامكانات المضمرة للعامل البشري والعجز عن معرفة ميوله الخاصة وإدراك حجم أو كتلة طاقته في منعطف الكوارث، ومنها النزاع المسلح في العراق أو الانحدار نحو الحرب الاهلية العراقية والاقليمية. بيد أن الإقرار العام بأهمية الدستور في 2005 هو الذي منح فرصاً عدة لأزلام «العملية السياسية» في الاتكال على المشرفين على «الكوندومينيوم» واستثمار كل الثقوب السود في الدستور الملفق من أجل الحصول على الحد الأقصى من المكاسب غير الشرعية في السلطة والمال. هنا كان الفساد آلة الحراسة للانتهاكات والاستباحة اليومية للذات اليومية لجمهور اللامبالاة. وقد نشأت حالة عجيبة من العلاقة بين المؤسسات التي ثبتها الدستور وبين «النخب» الملائية التي لم تعرف في تاريخها السابق مناخات الثقة المتبادلة والتعاون السياسي الحميم. وكان مسؤول الصيانة في «الكوندومينيوم» يقظاً في تعامله مع هذه النكرات التي فقدت غالبيتها صلاحياتها منذ فترة طويلة. لذلك ابتكر صلات غير مطروقة في البلاد واستلّها من رصيده المتمرس في «سياسة» خلط الاوراق. لقد عثرت قوى «الكوندومينيوم» على الرغبات المحرقة في المرجعية في تحبير الدستور وكذلك ولعها الخاص في الاهتمام بالمدونات والتي لديها روح دينية مقبولة ومن الصعب تجاوزها أو تكفيرها! من هنا بدأت عملية تحويل «السياسي» إلى «انتخابي» وبعدها إلى «وظائفي» في مجرى حمى إعلامية غير مسبوقة. كانت هندسة شاقة تحتاج الى مرونة استثنائية وخوض مفاوضات عاصفة وحول التفاصيل. ولكن الاكثر تعقيداً هو كونها مسؤولة عن «الحل الأمني» الملتصق بدورها المرسوم في «الحل السياسي». والاصطدام الأكيد مع الجدار «الأمني» هو الذي يكتب المسار الجديد ولكن بطريقة معاكسة! أي كيفية تحويل «الوظائفي» إلى «انتخابي» وليكرس بدوره مساحة النفوذ السياسي في الاستحواذ على السلاح والمال. في غضون ذلك، تحتفظ المؤسسات التي زورت تحت خيمة الاحتلال بضعفها البنيوي وهزال تكوينها القيادي وتراجع مناعتها أمام المتغيرات غير المتوقعة. ولأن القابض على شؤون هذه «الشركات» غير متفاعل بحذاقة مع مستلزماتها، فإنها سرعان ما تزداد انكماشاً وتنحدر إلى قاع الانهيار! لذلك نجد ان هذه «النخب» لتبرير تقاعسها وجشعها لجأت إلى قاموس «الكوندومينيوم» ومصطلحاته المتوافرة في سياسة خلط الاوراق. والأسوأ هو سعيها الدؤوب لحفر فجوات عميقة بين «الوظائفي» و«السياسي» لاستكمال دائرة الاشاحة عن العلة الجوهرية في «العملية السياسية» المبعثرة! من هنا يبدو الدستور هو الميدان النموذجي لكي نكشف سيرورة الاستحواذ الكامل على إدارة «الجمهور اللامبالي» وتظهير صورة نمو أو شراسة الديكتاتورية الجديدة للوزير الأول وحزبه الطوائفي. ان الدستور لا يحدد بدقة، متقصدة طبعاً، طبيعة العلاقة بين المؤسسات المركبة الحاكمة وذات الصلاحيات المتميزة والتي تحمل عناوين مختلفة يفترض ان تكون متناغمة في عملها ومتعايشة في آن في حيويتها وتنسيقاتها. والمؤسسات هذه ذات الطبيعة الخاصة والمستقلة تشمل مثلاً المحكمة العليا والمفوضية العليا للانتخابات وهيئة الإعلام... الخ. هي التي تقودنا ببطء وإصرار على فهم التشبث اليومي للنخب الحاكمة بمصادر «سياسة» خلط الاوراق ومدوناتها. لقد تصور الوزير الاول ان هامش مهاجمة مفوضية الانتخابات ونزع الثقة عنها تحت بنود اتهامات الانتهاكات والفساد سيتطور الى متن «سياسي» جبار يعزز فيه انتصاره الساحق على خصومه، لا سيما ان العملية تمت تحت سقف البرلمان وضمن بيئة الأصدقاء والحلفاء. لم تكن المباغتة رفض الاكثرية الحاضرة مقترحه البليد فقط، وإنما فشل الامتحان الذي تمناه حول سطوته على البرلمان ورغبته البدائية في تمديد هذه الى السنوات المقبلة. انهم غير خائفين من سطوته وهو لا يكترث باعتراضاتهم، وآلية العملية السياسية تتضمن صولات وجولات من السذاجة وسوء الطالع وقصر النظر. لكن السؤال الذي يبرز في هذه المعمعة هو: هل هناك وعي لعلاقة معينة بين هذه «الحركات الانصرافية»؟ * كاتب عراقي