تهرب من الشمس تطاردك بأشعتها الحارقة، تلوذ بالأزقّة الملتوية، تبحث فيها عن بعض ظلّ، تتذكّر ما قاله العرب عن الصّيف الذي شبّهوه بحدّ السيف، تستحضر صورة «البساط من الجمر» التي تواترت في كتبهم، ومجاز «سلطان الحرّ» الذي تردّد في أشعارهم... تتساءل كيف كتب العرب ما كتبوا في أرض شبّهوها ب «التنّور المسجور» ؟... ألم يتحدّث طه حسين عن القيظ الذي لا يصهر الأبدان فحسب وإنّما يصهر العقول أيضاً فيمنع النّاس من التفكير والرويّة؟ ألم يقل، لا بدّ للكاتب من أن يتأنّى ويتأمّل في غير جهد ولا مشقّة، وألاّ يتعرّض لهذا العناء السريع الذي يتعرّض له حين يسلّط الجوّ عليه هذا الحرّ الشديد؟... ألا تحتاج الكتابة إلى شيء من الرّاحة والهدوء والقدرة على التفكير المطمئن... وتلك أشياء لا تستقيم مع القيظ الشديد المرهق؟ في الصّيف نحن نلغو، أمّا في الشتاء فنحن نجدّ... هكذا كان يردّد طه حسين مضيفاً: «وما الذي كان يمنعنا من اللغو أثناء الصّيف وفي الصّيف تهدأ الحياة، ويأخذها الكسل فتوشك أن تنام أو تسير على مهل يشبه الوقوف، وفي أناة تضيق بها النفوس... كلّ أسباب النشاط مؤجّلة إلى حين». تمضي على غير هدى في الحواري الضيّقة، تستعيد عناوين الروايات التي قرأت والتي تدور أحداثها في الصيف، تتذكّر على وجه الخصوص رواية «الغريب» لألبير كامو، وهي الرواية التي صوّرت إقدام البطل الراوي مارسو على قتل رجل عربيّ في يوم قائظ شبيه بذلك اليوم الذي دفن فيه أمّه... لم يكتف الراوي بوصف الحرارة التي تحوّل الأرض إلى صفيحة من نار، بل أطنب في صفحات عدة من الرواية في وصف البحر يلهو فوق رماله مع حبيبته ماري... كانت هذه الرواية صيفيّة بامتياز... كل أحداثها ومشاهدها تحيل على هذا الفصل دون غيره من الفصول. أشاد جون بول سارتر بهذه الرواية قائلاً: «ما من عبارة فيها غير مفيدة... وعندما تغلق الكتاب تدرك أنّه لم يكن ممكناً أن يبدأ بصورة أخرى... أو ينتهي نهاية أخرى». من القصص اليابانيّة التي قرأت بحبّ كبير قصّة «زهرة الصيف» للكاتب ناميكي هارا. وهذه القصّة قد وصفت، بحسّ دراميّ لافت، تجربة اليابان المفجعة مع القنبلة الذرية... وهي التجربة التي لم يستطع الكاتب استيعابها وإدراك كنهها...لهذا اختار بعد أربع سنوات من كتابة هذا العمل الكبير الانتحار بعد أن أيقن أنّ سكينة الموت أرحم من كابوس الحياة . تواصل سيرك محتمياً بأسوار المدينة...تحاول ،من دون جدوى ، تفادي أشعّة الشمس،تتذكّر حكمة الشّاعر العربيّ القديم الذي أراد أن يحبّب إلينا قيظ الصيف فذكّرنا بصقيع الشتاء متهماً الإنسان بالجحود : «يتمنّى المرءُ في الصيفِ شتاءً /فإذا جاءَ الشتاء أنكرَهُ /فهوَ لا يرضَى بحالٍ واحدٍ / قتلَ الإنسانُ ما أكفرَهُ /...تستدرك قائلاً : إنّ الصيف في الأدب ليس دائماً ضيفاً ثقيلاً بل ربّما كان في الكثير من الأعمال الأدبيّة رمز الطبيعة في بهجتها وتجدّدها». تقفز إلى الذاكرة غزليّة شكسبير الشهيرة :هل لي أن أقارنك بيوم من أيّام الصيف ؟ هذه القصيدة التي تغنّى بها العشّاق في إنكلترا منذ زمن بعيد ،وقد جاء فيها : «هلْ لي أنْ أقارنكِ بيوم من أيّام الصيف/لكنّك أكثر منه حسناً واعتدالاً / فبراعم الصيف تهزّ براعم مايو بقوّة / ويوم الصيف في معظمه سريع الزوال». تتذكّر أيضاً من القصص التي احتفت بالبحر قصّة إحسان عبدالقدّوس «البنات والصيف» والتي فاق توزيعها ،على ما يقول البعض ، كلّ الروايات المصريّة المعروفة في الستّينات من القرن الماضي... وقد قرأت أنّ بعض المثقّفين طالب بمنعها وقد استجابت الحكومة لذلك فسحبتها من الأسواق، فما كان من إحسان إلاّ أن بعث برسالة إلى الرئيس عبدالناصر يقول فيها : «أنا لا أتعمّد اختيار نوع معيّن من القصص أو اتّجاه معيّن ،ولكنّ تفكيري في القصّة يبدأ دائماً بالتفكير في عيوب المجتمع ، وفي العقد النفسيّة التي يعانيها الناس، وعندما أنتهي من دراسة زوايا المجتمع ، أسجّل دراستي في قصّة... وكل القصص التي كتبتها كانت دراسة صادقة وجريئة لعيوب مجتمعنا ، وهي عيوب قد يجهلها البعض ، ولكن الكثيرين يعرفونها ، وهي عيوب تحتاج إلى جرأة الكاتب حتّى يتحمّل مسؤوليّة مواجهة الناس بها...والهدف من إبراز العيوب هو أن يحسّ الناس بأنّ أخطاءهم ليست أخطاء فرديّة بل هي أخطاء مجتمع كامل وأخطاء لها أسبابها وظروفها ونشرها سيجعلهم يسخطون وسيؤدّي بهم السخط إلى الاقتناع بضرورة التعاون في وضع تقاليد جديدة...ولقد بدأ الناس يسخطون فعلاً لكنهم بدلاً من أن يسخطوا على أنفسهم وعلى المجتمع سخطوا على الكاتب». من جديد تذكّرك الشمس ،وهي تغمر بأشعّتها كلّ المسالك والدروب ، بالقصائد العربيّة القديمة التي تحدّثت عن الصيف، وتذكّرك على وجه الخصوص بعبارة « لعاب الشمس » التي تردّدت فيها ...يقول أهل اللغة إنّه شيء تراه كأنّه ينحدر من السماء إذا حميت ... ويقال إنّه شبه الخيط تراه في الهواء إذا اشتدّ الحرّ ، ويقال أيضاً ما تراه في شدّة الحرّ مثل نسج العنكبوت... فالأمر هنا أقرب إلى الخيالات يراها المرء إذا اشتدّ حرّ الشمس وركد الهواء... تتحوّل بذاكرتك إلى الشعر الغربيّ وتتذكّر القصائد التي احتفت بالصيف ، وتقفز إلى ذهنك قصيدة رامبو التي تغنّت بالشمس وببيادر القمح ... وهذه القصيدة تعدّ من بواكير شعره وأكثرها تلقائيّة . يقول في مطلعها : «في أمسيات الصيف الزرقاء / سأمضي في الدروب /تخزني سنابل القمح /سأدوس الأعشاب الصغيرة حالماً /سأحسّ طراوتها على قدمي /وسأترك الريح تبلّل شعري المكشوف». كان رامبو مبتهجاً بحضور الصيف ابتهاجه بحضور المرأة ،كما جاء في آخر القصيدة ،فالصّيف دعوة إلى الفرح ، أي دعوة إلى الكتابة ،أي دعوة إلى الشعر. تحيلك قصيدة رامبو من دون أن تدري على عمل من أجمل أعمال الروائي محمد برّادة وهو«مثل صيف لا يتكرّر » الذي تحدّث فيه بإسهاب عن طفولته في فاس ...فهذه المدينة المشمسة هي التي علمته أن يكون حكاّء ...أن يرهف السمع للغة العالم والأشياء...أن يروّض الكلمات بكدّ الروية حتّى يقول غائر مشاعره ويفصح عن عميق رؤاه. ومن هاجرة فاس ينتقل الكاتب إلى هاجرة القاهرة ليكتشف عالماً جديداً...عالماً يضجّ بالحياة وباللغات وبالأغاني ليتعلّم في رحابه أبجديّة الكتابة والثورة والحبّ ...لقد فتحت كتب طه حسين وروايات نجيب محفوظ وخطب الزعيم جمال عبدالناصر أمام الفتى القادم من المغرب أفقاً لا يحدّ منتهاه...ولا ينسى محمد برادة أثر السينما المصريّة في نفسه .فقد ساهمت ،هي أيضاً في شحذ خياله ، وإرهاف حسّه وتطوير أدواته القصصيّة .ويستمرّ سلطان الحرّ...فيما تستمرّ أنت في الاحتماء منه بسلطان الذاكرة...