شكلت كثرة الاستطلاعات و«المستطلعين» علامة فارقة في الانتخابات النيابية اللبنانية الاخيرة. فما كاد يمضي يوم من دون أن يحسم استطلاع جديد، أرقاماً كان اعلنها استطلاع سابق. وفي معظم الحالات، كانت الاستطلاعات تتماشى في شكل مطلق مع الميول السياسية للمحطة التي تستضيف «المستطلع» أو الصحيفة التي تنشر آراءه. غير أن نتيجة الانتخابات جاءت لتقلب التوقعات، حتى تلك التي كانت تطلق عبر احدى المحطات بعد اغلاق صناديق الاقتراع. فما هو سبب انتشار هذه الظاهرة في الانتخابات الاخيرة؟ وما هو دور الاستطلاع والعاملين عليه؟ وكيف تتم عملية استطلاع آراء الناس؟ يدير السفير السابق للبنان لدى واشنطن الدكتور رياض طبارة مؤسسة تعنى بالمسائل الإحصائية والدراسات الاقتصادية والاجتماعية بتكليف ممن يرغب. ومنها مؤسسات تابعة للامم المتحدة خصوصاً أن اختصاص طبارة هو في الاقتصاد والاحصاء (دكتوراه). وعملت المؤسسة التي يديرها في الانتخابات الأخيرة لمصلحة فريقي 8 و14 آذار، «لكن في شكل أكبر ل14 آذار». وامتنع شخصياً عن الظهور على شاشات التلفزة خلال الحملات الانتخابية كما فعل آخرون. ويوضح طبارة الذي تمتد تجربته في المجال الاحصائي منذ عام 1993، أن «هناك خلطاً حول معنى الاستطلاع السياسي او الانتخابي. إذ ليس الهدف منه أن نقول للشخص الذي كلفنا به إنه سيربح أو يخسر، بل أن نقول له كيف يمكن أن يحسن وضعه. نخبره إذا كان مرشحاً للانتخابات أين نقاط ضعفه وقوته»، ويشير الى أن «من الطبيعي في النتيجة ان يظهر معنا من سيربح ومن سيخسر، لكن تلك تكون نتيجة لما نقوم به، وليست السبب». وعن الاحصاء الذي قدمته مؤسسته عن الانتخابات الاخيرة، يقول طبارة: «في بعض المناطق عرفنا النتيجة مسبقاً، لكن في أماكن عدة قلنا صراحة إنه لا يمكننا القول من الرابح». أما السبب، فيجيب: «في المتن مثلا، كانت النتيجة 50.5 لمصلحة أحد الفريقين مقابل 49.5 لمصلحة الفريق الآخر. في هذه الحال لا يمكننا أن نأخذ بنتيجة الاستطلاع لأنها متقاربة جداً»، ويضيف معلقاً على «تنبؤ» أحدهم بأن أحد المرشحين سيخرق ببضع مئات من الاصوات، سائلا: «بضع مئات ليس رقماً يمكننا أن نبني عليه نتيجة، إذ يمكن لطائرات عدة تأتي من الخارج أن تحمل أصواتاً تفوق هذا العدد». وعن المشكلة التي أدت الى فشل معظم الاستطلاعات في الانتخابات الماضية في طرح أرقام قريبة من النتائج التي أفرزتها الانتخابات، يقول طبارة: «العمل حصل على مستوى القضاء. وعندما تذهب الى القضاء المقصود، فإنك ستستطلع آراء الناخبين الذين يعيشون فيه، لكنك لن تتمكن من معرفة آراء الناخبين في القضاء المحدد والذين يعيشون خارجه. بمعنى أنك تأخذ 30 في المئة تقريباً ممن سيصوتون وتسألهم، هناك تقريبا 70 في المئة غير موجودين في القضاء»، موضحاً أن هذه الطريقة ناجحة لو كانت الانتخابات على مستوى لبنان دائرة واحدة، لكن «على مستوى القضاء فإن هامش الخطأ كبير، لأن الذين يأتون من خارج القضاء للتصويت فيه يمكن أن يقلبوا النتيجة لأننا لا نعرف كيف سيصوتون». ويضيف: «لكن في مطلق الاحوال يمكن أن نقول لمن كلفنا بالاحصاء كيف يمكن أن يحسن وضعه انتخابياً، كأن ننصحه بأن يرسل بوسطات الى الناخبين الذين يؤيدونه فيما يسكنون في مكان بعيد من مكان اقتراعهم، أو أن ينشئ مكتبا لمساعدة الناخبين للحصول على هويات وجوازات سفر اذا كان ثمة نقص لديهم في هذا المجال وغيرها». ويعلق طبارة على ما سبق الانتخابات الماضية، بالقول: «هذه المرة بدا وكأن هدف الاستطلاع هو التبصير، صار العاملون عليه يتبارون عبر وسائل الاعلام في التنبؤ بالنتائج، والمشكلة أن من كان منهم متعاطفاً مع 8 آذار يتبين معه فوزها، والعكس صحيح». والسبب من وجهة نظره «قد يكون الحماسة، لكن تحديداً لا اعرف ما الذي حصل. يمكن أن يكون السبب هو أن كل واحد منهم كان يستطلع آراء الناس من حوله، بدل أن يأخذ عينة تمثل المنطقة ككل». وعن النتيجة التي توصلت اليها مؤسسته تبعاً لاحصاءاتها، يقول: «في الاسبوع الأخير لعملنا، كان الغموض لا يزال يلف 3 دوائر: المتن وزحلة وبيروت الاولى. وكانت النتيجة فيها ستقرر من سيملك الاكثرية. في المتن، كانت النتيجة متقاربة، أما في زحلة والاولى، فكانت تميل الى 14 آذار، لكن ليس بالشكل الذي يسمح أن نقول اننا متأكدون، خصوصاً أن ثمة مغتربين سيأتون من الخارج». ويضيف: «في أماكن أخرى كانت النتيجة أكيدة، ففي البقاع الغربي مثلا كانت النتيجة محسومة سلفاً بنظرنا، لأن الفارق بين الاثنين كبير، على رغم ما كان يحكى عن معركة»، لافتاً الى أن عامل المغتربين يتم أخذه في الاعتبار «لكن كلا الطرفين يحضرون مغتربين، واذا كان الفارق كبيراً لا يغيره مجيء المغتربين». ويشير طبارة الى أن «المعارك كانت محصورة في المناطق حيث الغالبية المسيحية. كان المهم أن نرى كيف تغير النفس المسيحي، وهذا لا يمكننا أن نعرفه فقط بالانتخابات، بل تابعناه منذ زمن»، مضيفاً: «في الانتخابات الماضية كانوا منقسمين تقريباً 68 لمصلحة ميشال عون و32 للفريق الآخر. هذه المرة أظهرت استطلاعاتنا أن الرقم الاول انكمش الى حدود ال40». ،،، بين الاكثرية الشعبية والنيابية وعن الحديث عن أكثرية شعبية وأكثرية نيابية، يقول: «هذا الكلام غير صحيح إحصائيا، لأنه في أماكن عدة لم يصوت الناس لأن النتيجة كانت معروفة سلفاً. كما أن لبنان لا يسير بالاكثرية الشعبية، لأن الطائف أعطى المسحيين نصف عدد المقاعد، بغض النظر عن نسبتهم. وهذا لا يمكن أن يحصل بالغالبية الشعبية». ويؤكد طبارة أنه اذا اردنا الحصول على نتيجة احصائية مقبولة، «يجب ان يتوافر لدينا الاطار الاحصائي، وهذا غير متوافر لنا في لبنان، لأن دائرة الاحصاء لا توزع الاطار الاحصائي الخاص بها»، لكنه يلفت الى أن «يمكن التعويض في هذا الاطار عبر اللجوء الى اختيار عينة كبيرة، اذ كلما كبرت العينة، صغر هامش الخطأ عندنا»، ويشدد على ضرورة أن يكون العاملون في المجال «على معرفة بمبادئ الاحصاء، وأن يعتمد التنوع في اختيار العينات».