الذين تسرّعوا وقالوا إنّ الانتفاضة السوريّة بدأت في 14 شباط ثمّ 14 آذار اللبنانيّين، جلبوا على أنفسهم سخرية في محلّها، فيما كشفوا عن «أنا» يتنافس فيها التضخّم والخفّة. وقد كان حجم هذا الارتكاب التأويليّ من الضخامة بحيث أنّه لم ينجح في الإضرار بالانتفاضة السوريّة. طبعاً حاولت الدعاية الرسميّة في دمشق وأبواقها اللبنانيّون، بكلّ الطرق الرديئة المعهودة فيهم، أن تعزف على الوتر هذا للوصول إلى أغراض معاكسة وتآمريّة من الدرجة الخامسة. لكنّ الذين حملوا تلك الدعاية على محمل الجدّ كانوا دائماً أقلّ من الذين صنعوها وصنّعوها. بيد أنّه من السيّء، في المقابل، نزوع بعض السوريّين واللبنانيّين إلى التبرّؤ من الحركة الاستقلاليّة اللبنانيّة التي ضربت النظام الأمنيّ في توسّعه الامبراطوريّ. وهذا التبرّؤ حين يصدر عن لبنانيّين يأتي محمّلاً بكراهية النفس، التي لا يبرّرها المصير الذي آلت إليه الحركة، ولا طبيعة قياداتها التي تدعو إلى ما يتراوح بين الهجاء والرثاء. أمّا حين يصدر عن سوريّين فينمّ عن شبهة قوميّة عربيّة بالية كانت ترجمتها العمليّة الوحيدة تمكين السيطرة «الأخويّة» على لبنان. وعلى هوامش المسألة هذه، ومن مواقع ليست كلّها ناصعة التأييد للانتفاضة السوريّة، تظهر أصوات تقول: لكنّ الحركة الاستقلاليّة اللبنانيّة كانت عنصريّة بالمطلق ومن دون تمييز ضدّ السوريّين. وهو قول فيه الكثير من الصحّة، ويستدعي دوماً الإدانة والتنديد. إلاّ أنّ فيه أيضاً الكثير من التعميم. فأين هي الحركة الاستقلاليّة في العالم كلّه التي لم تتعال فيها أصوات القطاعات الأشدّ تخلّفاً وعنصريّة؟ ولو قُلب الأمر وحصل تبادل في الأدوار، أما كنّا لنسمع أصواتاً سوريّة عنصريّة بحقّ اللبنانيّين من طينة الأصوات اللبنانيّة العنصريّة بحقّ السوريّين. وهذا ليس مقصوداً به عذر العنصريّين بتاتاً، لكنّ الميل إلى اعتبار العنصريّة جوهراً لبنانيّاً راسخاً وحصريّاً ليس صحّيّاً على الإطلاق، ومن علامات مَرَضيّته أنّه يضيّع المسألة الأساسيّة، وهي الشراكة الموضوعيّة في التصدّي للنظام نفسه. فالانتفاض السوريّ له بالتأكيد تاريخه الوطنيّ الخاصّ الذي يبدأ مع حركة المنتديات وهيئات المجتمع المدنيّ التي ظهرت بُعيد وراثة بشّار الأسد والده في 2000. لكنّ ذلك لا يلغي التقاطُع الضخم، حتّى لو لم يكن مُوعى من طرفيه، مع نتائج الحدث اللبنانيّ الكبير في 2005. فآنذاك سُحب الجيش الامبراطوريّ من درّة تاج الامبراطوريّة، وبدأ النظام يواجه عزلته التي حاول الالتفاف عليها ب «اقتصاد السوق الاجتماعيّ»، متسبّباً بالمزيد من الفقر للسوريّين. وهو في هذا إنّما قصّر عمره على النحو الذي لم تسعفه الشطارة الديبلوماسيّة التي تأدّى عنها كسر العزلة خلال 2007-2008. في تلك الفترة كان من هم «غير عنصريّين» حيال الشعب السوريّ مفتونين بالمقاومة التي تبدّى (فجأة!؟) أنّها حليف آلة القتل في سوريّة. وإذا كان معظم هؤلاء لا زالوا مبهورين بتلك الفتنة، فإنّ قلّتهم الصادقة تزاوج اليوم بين تأييد الانتفاضة السوريّة وتأييد مبدأ المقاومة. وهذا سلوك غير مؤذٍ في آخر المطاف، ترجمته الفعليّة أنّ انتقال المقاومة من مبدأ إلى واقع سوف يصطدم حكماً وحتماً بالانتفاضة السوريّة وبكلّ انتفاضة تطلب الحرّيّة لشعبها. وقصارى القول إنّ من الصعب تجنّب الانقسام اللبنانيّ في المسألة السوريّة للسبب البسيط إيّاه وهو وقوع تلك المسألة في قلب ذاك الانقسام، ووقوع ذاك الانقسام في قلب تلك المسألة. أمّا الاختيار بين مناهضي النظام البعثيّ، وإن كانت أطرافهم الأشدّ تخلّفاً عنصريّة، وبين مؤيّدي النظام ذاته مصحوبين بالتشدّق اللفظيّ ب»الأخوّة» و»القوميّة»، فيبقى أقرب إلى مزاح سمج.