لو كانت لجان التحكيم في المهرجانات التلفزيونية وحتى السينمائية العربية - وغير العربية أحياناً - منصفة ونزيهة لكان من الطبيعي والبديهي أن تمنح أرفع جوائزها في فن التمثيل الكوميدي لسيّد من أسياد هذا الفن في عالمنا العربيّ المعاصر. ونكاد نقسم أننا لا نمزح هنا ولا نحاول أن يكون في كلامنا هذا أية إهانة «للفنان» الاستثنائي الذي نتحدث عنه: العقيد الليبي معمّر القذافي. بيد أننا إذ نقول هذا سنسارع بالإشارة الى أننا لسنا في صدد الحديث هنا عن أدائه في أيامنا الراهنة. ذلك أن هذا الأداء صوتاً وصورة وأحياناً صوتاً من دون صورة وأحياناً أخرى صورة من دون صوت، أفقد القذافي الكثير من حسّ مرحه القديم والكثير من الذكاء العفوي الذي لا بدّ منه لكل مهرّج. فمعروف في عالم الفن أنك إذا كنت تحتاج ذكاء لتؤدي أدواراً تراجيدية فإنك تحتاج عبقرية لتؤدي أدواراً هزلية. القذافي وحتى شهور قليلة كان إذاً يتمتع بعبقرية كبار المهرجين التي قلصتها الأحداث الأخيرة، لذلك نقصر حديثنا عنه على مشاهد قديمة رائعة حقاً يمكننا أن نستخلص من واحد منها على الأقل ما يؤيّد تلك المقولة التي باتت سائدة الآن متحدثة عن أن الحياة هي ما يقلّد الفن لا العكس. ولتأييد فكرتنا هذه حسبنا اليوم أن نستعرض مع متفرجي قناة «العربية» التي - والحق يقال - تبدع أكثر من زميلاتها في استعادة بعض التواريخ المصوّرة، ذلك المشهد الذي يعود الى فترة أزمان «سعيدة» و «هادئة» كان يجتمع فيها رؤساء العرب الكبار ليتداولوا في شؤون «الأمة» ساعين الى خيرها(!) كما نعرف جميعاً. في ذلك المشهد يطلّ العقيد الليبي الأخضر بثيابه الفولكلورية المضحكة وكأنه قادم من ألف ليلة أو من رسوم الواسطي لمقامات الحريري. وهو ما إن يفتح فمه ليتكلم بحكمة «كعادته» طبعاً، يرى الرؤوس اليانعة لزملائه الرؤساء وقد امتلأت سخرية إنما بلطف. يغيظه منظرهم بخاصة أن حديثه كان يحمل استنكاراً لإعدام رفيقهم الراحل صدّام حسين. هنا إذ يرى ذلك ويدرك أنهم لا يعبأون لا به ولا بما يقول ولا حتى بمصير الرئيس العراقي المخلوع والمشنوق ولا خاصة بأن فاعلي ذلك هم الأميركيون، يصمت محدقاً ويمرّر نظراته فيما بين المجتمعين مع مواكبة من الكاميرا مصوّرة وجوههم مبتسمين ساخرين، يبتسم بدوره ولكن بمكر وتشفّي قبل أن يقول موجهاً الحديث اليهم جميعاً - ومن بينهم بن علي ومبارك وصالح والأسد، وبوتفليقة واللبناني اميل لحود...-: اضحكوا... اضحكوا... إن دوركم آت لا محالة!!! وهم إذ يسمعون هذا يزداد ضحكهم. ترى لو كانوا من الثقافة بحيث يفهمون معنى أن الحياة تقلد الفن - فن التمثيل على الطريقة القذافية- هل كانوا ضحكوا على تلك الشاكلة؟ والقذافي لو كان محكمو المهرجانات الفنية يدركون ما في أدائه ذاك من عبقرية أولم يكن من شأنهم أن يعطوه عن جدارة أرفع الجوائز؟