تختلف العادات والتقاليد الرمضانية في المخيمات الفلسطينية في لبنان عن غيرها من المناطق، نظراً إلى خصوصية الأوضاع التي يعيشها اللاجئون الفلسطينيون. والظروف العامة لهؤلاء صعبة، من الحصول على لقمة العيش في ظلّ الحرمان من الحقوق الإنسانية إلى مشاكل اللجوء الأخرى، إضافة إلى الكثافة السكانية وضيق الأزقة في المخيمات... عوامل تجعل من الشهر الفضيل ضيفاً مميزاً لدى العائلات تقرّب الناس بعضهم من بعض. عند مرورك في أزقة المخيمات قبيل الإفطار تتنوّع وتتداخل روائح الأطعمة والحلويات الرمضانية، ويُخيّل للمار فيها أنها صادرة من منزل واحد. وتعيش في الزقاق الضيق الصغير الذي يربط بين ساحة القدس وحي صفورية في مخيم عين الحلوة ثلاث عائلات، في البيت الأول إلى اليمين، تستيقظ أم سالم (60 سنة) من نومها، وتبدأ نهارها الرمضاني الأول بتحضير الأواني الفضيّة التي حملتها والدتها من فلسطين: إبريق الشاي، رِكاء القهوة بأحجام عدة، المقلاة، الطناجِر، إناء الماء والحصيرة «المزركشة» التي يجلس عليها أفراد الأسرة عند الإفطار، أشياء مميزة وغالية جداً على قلبها، أشياء لا تظهر إلّا في رمضان وتعود إلى «مخابئها» ثالث أيام العيد. ويجلس الحاج أبو وفيق (80 سنة) متكئاً بكلتا يديه على عكازه في زاوية عند نهاية الزقاق، مستذكراً أيام رمضان في فلسطين: «حينها، كان لشهر رمضان طعم آخر، كانت التحضيرات لاستقباله تبدأ قبل أسابيع، بتحضير المونة الرمضانية وقراءة القرآن والكتب الدينية لاكتساب مزيد من المعرفة والقدرة على مناقشتها في السهرات الرمضانية». ويضيف: «حين يأتي الشهر الفضيل، يصل الناس ليلهم بنهارهم، بحيث تجتمع النساء كل يوم في مكان، للاستماع إلى القصص والأحاديث الدينية، كذلك يفعل الرجال ويجتمعون في مقهى القرية بعد الانتهاء من صلاة التراويح، ثم يتوزعون ليسهروا أمام بيوتهم بحيث يتناوبون بتحضير السحور الرمضاني، منتظرين المسحراتي الذي يأتي على حماره حاملاً الكثير من القصص والروايات المضحكة». ويلعن الحاج هذه الأيام قائلاً: «اليوم، ينتظر الكثير من الناس رمضان لمشاهدة المسلسلات والبرامج السخيفة، وأصبح رمضان بلا طعم». وفي المنزل الثاني إلى اليمين تُخرج الحاجة أم رياض (65 سنة) الصاج وتضعه وسط المطبخ، وتبدأ نهارها بتحضير العجين لخبزه قبيل الإفطار، فيكون للخبز والمعجنات الأخرى طعم شهي تتذوقه جميع عائلات الحي من دون استثناء خلال الشهر الفضيل. أما أم العبد (58 سنة)، ربة المنزل الوحيد إلى اليسار، فتدخر للشهر الفضيل بعض المصاريف الإضافية لشراء أجود أنواع الزيوت والسمنة، فرمضان بالنسبة إليها فرصة لتحضير أشهى أطباق الحلوى، وفي مقدمها القطايف الفلسطينية بالمكسرات، الطبق الذي تتباهى به دائماً أمام جارتيها. وعند الانتهاء من التحضيرات الأساسية تجتمع الجارات الثلاث عند أعتاب بيوتهن للتشاور بأنواع الأطعمة المنوي إعدادها خلال اليوم، بحيث يتنوّع الطبق الرئيس لكل واحدة منهن، فيكون على كل مائدة ثلاثة أطباق بعد أن تتبادل الجارات الطعام قبيل الإفطار كما اعتدن منذ أن جمعهن القدر في ذلك الزقاق. وعند سؤاله عن البرامج التي يشاهدها، يقول الرجل الثمانيني: «أشاهد فقط المسلسلات الدينية إذا حضرت، ولكنني لا أتابعها وأتعلق بها كما يفعل أولادي وأحفادي، وأقضي بقية الوقت في قراءة القرآن، والسهر مع العائلة أحياناً». وعن الطعام يقول: «مذاق الطعام بات مختلفاً، فالسمنة البلدية الطازجة تكاد تنقرض، والناس أصبحوا يتناولون طعاماً غريباً بلا طعم ولا رائحة، كال «إسكالوب» و «الهمبرغر»، بالنسبة لي أفضل الزيت والزعتر على تناول هذه الأكلات، لكن «الله يكرمها» ابنتي الكبرى تقوم أيضاً بتحضير «أكلات» أخرى شهية تعلمتها من والدتها المرحومة، غير أن طعم الدجاج واللحوم والخضروات مختلف أيضاً، بحيث كنّا نقوم بقطف كل شيء من الأرض مباشرة، كما كانت أمي تذبح الدجاج الذي يرعى في الحقول المزهرة دائماً». تعود لتلتقي الأمهات الثلاث مرة أخرى قبيل السحور، بعد أن يتقاسمن مداورةً تحضير طعام السحور، اليوم الأول يقع على عاتق الحاجة أم رياض وعليها تجهيز مناقيش الصاج، اليوم الثاني من نصيب أم سالم وعليها تحضير طبق الفول الفلسطيني المدمس، وأم العبد لليوم الثالث تحضر «صدر» الكنافة النابلسية، الطبق الذي أتقنته على يد والدتها، وكان طريقاً للاستحواذ على قلب زوجها أبو العبد قبل أربعين سنة. وينهي العجوز كلامه، وعيناه شاخصتان إلى مكان ما في تلك المخيلة ليقول مشككاً: «ربما تغير كل شيء منذ خروجنا من فلسطين، أصبح للحياة كلها طعم آخر، يعرفه جيداً من ذاق طعم الظلم... 63 سنة». وخلف ذلك المخيم المسيّج بطوقٍ أمني، تجد شعباً يعيش تفاصيل يوميات عادية جداً في أزقة لا تتسع لأحلامه التي تسافر كل يوم مخترقة الحواجز، هاربةً من أصوات الرصاص إلى حيث دأبت أن تحيا قبل 63 سنة.