قلقي يسبق خطواتي الى رحاب الظلمة التي تغرق فيها صالة السينما الصغيرة. إحدى الصالات المخصصة لعروض مهرجان دبي السينمائي. عنوان الفيلم «مدرسة بغداد للسينما». شدتني اليه الكلمة الوسطى بينهما... وجعلتني أتخذ موقعي ضمن صف الحضور. ومع رفيقتيّ الفلسطينية واللبنانية، جلست أنتظر المشهد الأول باضطراب: من سيفتح أبواب بيته لزائر يهمه أن يخرج منه بحقيبة دهشة وإعجاب. مخرجة الفيلم أجنبية وهو تجميع لحكايا شباب عراقي يوحدهم حب السينما فيلتحقون بمدرسة متواضعة لمخرج عراقي مغترب قرر ان يعود الى بغداد ليحقق حلمه بافتتاح هذا الصف الصغير. كنت أنا أيضاً داخل تلك الحجرة السوداء على موعد مع مدينتي بعد اغتراب سبع سنوات. كنت أتوق الى منظر الشوارع والناس والبيوت وتهفو نفسي الى استنشاق نسيم بغداد وان كنت أدرك أنني أتنفس في دبي. بدأت المشاهد تتوالى... وبدأت أختنق. شوارع متربة، لا أثر للقار الذي سحقته عجلات الدبابات التي انتهكته مراراً. أشباح بشرية، نساء يجرجرن أطفالهن بسرعة نحو المنازل... مرارة الأسئلة تتصارع على وجوهه... كلهن مغطاة الرؤوس يتشحن بسواد المصير... سيارات بالكاد تجر نفسها.. حمار مغلوب على أمره بعربة تتزاحم فوقها أنبوبات غاز... أطفال يلعبون الكرة... لا طفولة في ملامحهم عدا حجمهم الصغير... مهلاً... لا حياة هنا... ليست تلك مدينتي... للحظة تمنيت أن أهرب...أترك رفيقتّيَ وأغادر المكان فليس هذا ما يجب ان يرينه. ليست تلك حياتنا، ولم تكن تلك بغداد. كدت اقف وأصرخ بالمتفرجين، أتوسل اليهم ان لا يصدقوا أعينهم، فليست تلك حقيقة، وليس ذاك الا كابوس طويل. لكنني بعد انقضاء نصف ساعة بدأت أتعرف على شخصيات الفيلم. عمر، أو انكيدو كما يسمونه، من منطقة الشعب حيث يكثر الخاطفون وتنشط العصابات. أدخلَنا بيته وحكى لنا عن أخيه الذي خرج في إحدى ليالي رمضان ولم يعد. عثروا عليه بعد حين في ثلاجة مستشفى وجسده مرصع ب 18 طلقة. ترك أطفالاً وزوجة. لم يدروا لماذا غاب أبوهم ومتى سيعود. أنكيدو لا يزال يسألنا: لماذا؟ * * * مهند من الناصرية، يعيش وحده في بغداد، يصور لنا غرفته الصغيرة، حيث سرير ضئيل وكتب شعر وسينما تتزاحم على بساط رث لأنه لا يملك رفوفاً لها. يعمل حارساً ليلياً ولم يحلق ذقنه منذ أيام لأنه لم يتسلم معاشه بعد. بريق في عيني مهند انتشلني من الهلع الذي هزني خلال المشاهد الأولى للفيلم. نظر الى الكاميرا وقال انه يشعر ان في داخله شخصاً آخر مليئاً بطموح جامح هو في سباق دائم للحاق به. ثم غاب مهند عن محاضرات المدرسة. قتل أخوه في الناصرية، بل ذبح، كان أستاذاً للفلسفة، يسارياً لا يبخل بآرائه في السياسة والحياة على طلبته. لم تعجب قاتليه تلك الآراء. من هم يا مهند؟ مهند يبكي ولا يقول... يخاف أن يقول. فقد لا يعجبهم قوله أيضاً. * * * محمد من الأعظمية، ما زال في التاسعة عشرة. حلاق يعمل مع والده الحلاق. يحكي لنا كيف قتلوا صاحبه الذي يعمل في المهنة ذاتها لأنهم اعتبروا بعض طرق الحلاقة حرم! من خلال فيلمه التسجيلي حكى عن حياته في دكان أبيه الذي عاد وافتتحه أخيراً بعد ان أغلقه تجنباً للذبح... محمد كان واثقاً... مدركاً وآسفاً لما يجري، لكنه لم يكن أبداً يائساً... من طلاب المدرسة أيضًا شاب كان طويل الشعر...غاب وجاء بشعر قصير. خطفوه وهددوه بقص رأسه اذا لم يقص شعره. شعره الطويل لم يعجبهم... من هم؟ * * * المشاهد الأخيرة في الفيلم كانت لليوم الأخير من الدراسة. الطلاب أتموا أفلامهم. الأستاذ فخور. صورة جماعية على سطح مبنى المدرسة. بغداد وراءهم بدت بعيدة... ساكنة... ثكلى. وهم في أعلى السطح سعداء منشغلون بالتقاط الصور. أحلامهم كبيرة. كدنا نلمحها تقفز أمامنا... تغمرنا... تمنحنا وصفة أمل في زمن الموت. بعد انتهاء الفلم التقينا بالمخرجة. أخبرتنا ان فيلم محمد نال جائزة مهمة في دبي. فاصبح بذلك أصغر مخرج محترف. خطوت خارج السينما وأنا انظر بزهو الى رفيقتيّ. كنت سعيدة ومطمئنة... سيكون العراق... بخير.