تحتفل تلمسان عام 2011 باختيارها عاصمة للثقافة الإسلامية. قليلون يعرفون أن محافظة كفر الشيخ في مصر تنسب إلى الشيخ طلحة التلمساني الذي هاجر إلى مصر، فنسبت إليه لحب أهلها له. تلمسان مدينة داخلية تقع غرب الجزائر العاصمة، على بعد نحو 600 كلم، وهي مدينة موغلة في القدم وتعد من المراكز الحضارية الكبرى في المغرب الأوسط (الجزائر)، وكانت مستقراً للكثير من الدول ومرت بجميع المراحل التاريخية، ونزل بها أقوام كثيرون من فينيقيين ورومان وبيزنطيين، ثم حل بها الإسلام فانغرس بها وتجذر. وساهم كل من مر بها من الدول في العصر الإسلامي في البناء الحضاري للمدينة، وذلك منذ عصر الولاة والإمارات إلى يومنا هذا. فقد دخل الإسلام تلمسان مع أبي المهاجر دينار في حدود 95ه فتلقفته وفهمته في صفائه ونقائه وفي عدله ومساواته فانضوت تحت لوائه وحسن إسلام أهلها من قبائل مغراوة وتوجين وبني يفرن، الذين انضووا تحت راية الدولة الإدريسية 274ه/ 788م، ومنذ هذا التاريخ أخذت تلمسان تتحول إلى مركز حضاري إسلامي مستقر على المذهب المالكي، وأخذ في التطور والازدهار اقتصادياً وعلمياً وفكرياً خلال العهد الفاطمي 296-363ه/ 908-972م والحمادي 387ه/997م، ثم المرابطي (472-546ه/1079-1151م)، ليبلغ قمة ازدهاره في العهد الموحدي (546-669ه/1151-1269م)، وضاهى في ذلك المراكز العلمية الإسلامية الكبرى كالقيروان وفاس وقرطبة. وتحولت تلمسان في العهد الزياني (633-962ه/ 1233-1554م) إلى عاصمة دولة فازدادت أهميتها وتعاظم شأنها وزاد سكانها واتسع عمرانها ومر بها الرحالة والجغرافيون، واستنبتت أرضها عدداً كبيراً من العلماء والمفكرين في شتى فنون المعرفة ومجالات العلم، ونزل بها فطاحل العلماء من المشرق والمغرب والأندلس مقيمين بها ومستوطنين لها أو عابرين لها، وفي كل ذلك كانوا مشاركين في بناء الصرح العلمي للمدينة الإسلامية ومساهمين في إعلاء شأنها. وانتشر الزهد والتصوف في تلمسان ونواحيها، كما انتشرت العلوم الدينية والشرعية والاجتماعية والطبيعية والرياضيات فيها، وأمَّ الطلبة الجوامع والمدارس والزوايا والأربطة يغترفون منها العلوم بالدراسة والبحث، وأنتج علماء تلمسان وأدباؤها وشعراؤها كماً كبيراً من المصنفات في مختلف فنون العلم والمعرفة ما زال عدد كبير منها محفوظاً في المتاحف والمكتبات ودور العرض المحلية والعالمية: ومنهم: الفقيهان المالكيان الكبيران ابنا الإمام أبو عبدالرحمن وأبو موسى عيسى، وعلماء عائلة المرازقة ابن مرزوق الجد والحفيد، وكذلك علماء الأسرة اليعقوبية والمقرية، فضلاً عن الشعراء من مثل ابن خميس والمتصوفة مثل الولي الصالح الزاهد العالم أبي مدين شعيب وأبي عبدالله الحلوي وغيرهم كثر، وقد عجّت مدارس مدينة تلمسان وجوامعها بعدد هائل من الطلبة والمصنفات العالمية. وشجع السلاطين الزيانيون العلم والمعرفة فاستدعوا العلماء أينما وجدوا للإقامة والتدريس في تلمسان، وكانوا هم أنفسهم على مستوى عال من العلم، فأبو تاشفين عبدالرحمن منشئ المدرسة التاشفينية كان مهندساً وفناناً وكان والده قبله أبو حمو موسى الثاني منشئ المدرسة اليعقوبية مؤلفاً وهو صاحب كتاب «واسطة السلوك في سياسة الملوك». وبهذا كانت تلمسان دوماً عاصمة للغرب الجزائري وعاصمة للدولة الزيانية ومركزاً حضارياً إسلامياً كبيراً ومدينة للعلم والعلماء، وظلت كذلك حتى سقطت الدولة الزيانية وتحولت عنها العاصمة إلى الجزائر الحالية سنة 962ه/1554م، ومع ذلك فقد ظل طيفها قائماً في المدينة وتأثيرها دائماً. وشهدت المدينة ونواحيها خلال تاريخها الطويل حركة عمرانية ومعمارية وفنية واسعة في أغادير وتلمسان والمنصورة خصوصاً في العهد الزياني، فازدادت المدينة كثافة عمرانية حتى فاضت فخرج عن أسوارها في العبادين السفلي والعلوي وفي سيدي الحلوي وبوبلان، فانتشرت فيها المساجد والمدارس والزوايا وأربطة الصوفية والزهاد والصلحاء، شيّدها الحكام والسلاطين وعلية القوم من الفقهاء والقضاة والتجار الكبار، وكان ذلك التطور والازدهار بفضل ما تحتكم عليه المنطقة من موارد اقتصادية، وبتأثير من موقع المدينة المفتوح على سهول واسعة خصبة وجنان وبساتين كثيرة مثمرة، فضلاً عن توسطها للطرق التجارية ومسالكها البرية والبحرية شرق غرب وشمال جنوب. وتنوعت فيها المواد والسلع التجارية وبخاصة الذهب الوارد من السودان الغربي الذي يصل الى أوروبا من طريق موانئ الدولة في وهران وهنين. وتشهد تلمسان خلال عام 2011 الكثير من الفعاليات التي تقدمها للعالم للمرة الأولى بصورة متكاملة، فسيقام لهذه المناسبة معرض لنماذج من الأدوات المكتشفة في حفريات حول تلمسان، وعرض نماذج من المخطوطات التلمسانية في شتى أصناف العلوم. كما ستشهد تلمسان عدداً من المؤتمرات العلمية، منها تلمسان بين التراث الإسلامي والميراث العمراني، ليقدم لنا من خلال عدد من المحاور اسهام تلمسان في الحضارة الإسلامية، فتتناول الحياة الفكرية في تلمسان في العصر الإسلامي والميراث العمراني الإسلامي في تلمسان، والمؤرخين الذين تناولوا تلمسان في كتاباتهم. ومن مؤتمرات هذه الاحتفالية، «إشكاليات الفتوى بين الضوابط الشرعية وتحديات العولمة»، اذ ان للإفتاء مكانة مهمة لدى المسلمين وتأثيره البارز في سلوك الأفراد في المجتمع ما يساهم في انسجامه وسلامته، ولذلك وضع العلماء لهذا الموضوع الكثير من الضوابط تحول دون الوقوع في الخطأ. غير أن الواقع اليوم الذي نشهد فيه تحولاً عظيماً في مختلف المجالات أصبح يعرف تعدداً في الفتوى مصدراً ومنهجاً، ما أدى إلى تضاربها وفوضويتها في الكثير من الأحيان، وهو ما يفرض على الهيئات العلمية والمؤسسات المعنية اتخاذ الموقف المناسب من أجل تنظيم هذه العملية التي تكتسي أهمية بالغة في حياة المسلم. وتواجه المجتمعات الإسلامية اليوم إشكالية كبيرة ليست بالجديدة وهي خروج الفتوى عن الضوابط والقواعد التي سطرها العلماء، كما أن التطورات الحاصلة في واقعنا والتي تفرضها العولمة جعلت لها أثراً واضحاً على السلوك الفردي والجماعي، وساعدت في نشوء فوضى وفتن جعلت من الصعب على المسلم أن يستقر حاله في فهم دينه والالتزام بتعاليمه في ظل هذا الركام الضخم من الفتاوى. إن شيوع الفتاوى الفردية والفتاوى العابرة للقارات عبر وسائل الإعلام الحديثة وغياب دور فعال للمجامع الفقهية المتخصصة التي يجتمع فيها العلماء من كل التخصصات ومن كل الاتجاهات، هما أحد أسباب ظهور هذه الفوضى التي جعلت لقب شيخ يوصف به المبتدئون في تحصيل العلم. وينتظر أن يكون هذا المؤتمر إسهاماً في حل المسائل المرتبطة بممارسة الفتوى ووضع أسس لتنظيمها ووضعها في إطارها المناسب وذلك من خلال الإسهام في جمع كلمة المختصين بهذا الشأن. * كاتب مصري