كُتبت قبل عام من ثورة مصر، ولم يُسمح لها أن تضجَّ بالحركة والحياة فوق خشبة المسرح إلا اليوم. كانت بمثابة نبوءة تعبوية تثويرية لكي «يقومَ المصريُّ» من سُباته الذي طال أمدُه، فقام المصريُّ وأشهدَ العالمَ على واحدة من كبريات ثورات التاريخ ضد الشمولية والطاغوت. أما المسرحيةُ، فعنوانها «قوم يا مصري»، حثّاً للمواطِن على النهوض من غيبوبةٍ طالت، واستلهاماً لأغنية فنان مصر الخالد «سيد درويش: «قوم يا مصري/ مصر دايماً بتناديك/ خُد بنصري/ نصري دينْ/ واجبْ عليك». وأما كاتبُها، فهو الشاعر والكاتبُ المسرحي بهيج إسماعيل. وأما بطلُ المسرحية في تقديري، بالإضافة إلى النص التحريضيّ المبدع، فكان تصميمُ الأزياء الذي أبدعته منى درّاج، والديكور الذي أبدعه ناصر حافظ، بما أن الدراما سَفرٌ طويل عبر تاريخ مصر الضارب في عمق التاريخ منذ آلاف السنين، بين غُزاتِها وممالكها وضروب الأعراق المتباينة التي دخلت في متن نسيجها ولم ينجح عرقٌ من تلك الأعراق في استلاب هويتها، بل أذابت مصرُ، على مر التاريخ، كل الأعراق التي اخترقتها، وصهرتها بين خيوط جدائلها، لتبقى مصرُ مصرَ. لهذا قال مايكل رايس: «إن الذي جعل من مصرَ مصرَ، هو أنها تمكنت من احتواء الكل، ولم يستطع أحدٌ أبداً أن يحتويها». تُقدَّم المسرحية الآن على «المسرح العائم، فاطمة رشدي»، بالقاهرة ، ومسرح «الليسية» في الإسكندرية ، وتواصل تقديمها على مسرح «الحديقة الدولي». بطولة: محمد متولي، بثينة رشوان، خالد محمود، نيرمين كمال، ومن إخراج عصام الشويخ: مجموعةٌ من شباب المتظاهرين يبدأون تظاهرتهم بدخول جامع «عمر مكرم» ليشيّعوا ويقيموا صلاةَ الغائب، الرمزية، على «كلَّ حاجة حلوة ماتت في البلد». يتزعمهم الشاب الثوريّ محمود وخطيبته مها. يُضرب محمود على رأسه بعصا الأمن المركزي الغليظة، فيدخل في غيبوبة مواتٍ إكلينيكيّ سنوات ستّاً. انفضّ الجمعُ من حوله بعدما أسلموه لخراطيم التنفس الاصطناعي، وفقدوا الأملَ في عودته للحياة، إلا الأم، التي تأبى إلا الإيمان بعودة ابنها للوعي، وكذلك الطبيب الشريف، الذي اختار له المؤلف اسم «محمد أبو الغار»، الطبيب المصري المعروف، ورئيس الحزب المصري الديموقراطي الآن. يقاوم الطبيبُ قرار الطبيبة اليائسة، سوسن طه، التي لم تر موجباً لبقائه موصولا بالخراطيم حيث لا أمل في عودته للحياة، على أن الطبيب يصرُّ على موقفه وأمله، فيحقنه بمادة تنشّط اللاشعور، في محاولة منه أن يحثَّ الحواسَّ بالتدريج على استعادة وظائفها. ثم تأخذنا الدراما، داخل عقل محمود المغيّب، في رحلة عبر الزمن، والمكانُ ثابتٌ: أرض مصر الطيبة. يدخل محمود ومها العصرَ الفرعونيَّ، فيجدان رئيس الكهنة والجنودَ ينشدون التحايا ممهورةً بفروض الطاعة والولاء للملك الفرعون. ذاك الذي لا يظهر أبداً للشعب، وأبداً لا يسمع شكاواه. يحاول العسكر ورجال الفرعون اختطاف مها لتقديمها قربانًا للنهر المقدس «حابي» (النيل)، في سياق تقديم أجمل عذراوات مصر كل عام عروساً للنيل، كي لا يحرم الأرضَ السوداء «طِيبةَ» من فيضانه الثري، جالب الخير والخصب. هنا، تظهر الأمُّ لتبسطَ عباءتها الواسعة على المشهد، وتنقذهما في اللحظة الأخيرة من براثن العسكر، فيدخل العروسان في المحطة الزمانية التالية: العصر الرومانيّ، هنا سيكونان شاهدين على قسوة الرومان على مصر القبطية. ولحظة يقرر الجنودُ قتل العروسين الثائرين لأنهما رفضا أن يُسبِّحا بحمد قيصر والسجودَ أمام عرشه، تبسط الأمُّ عباءتها كعادتها في اللحظة الأخيرة، فيدخلان حقبة تاريخية جديدة: العصرَ المملوكي. يفرض الجابي ضرائبَ باهظةً على محمود الفقير الذي لم يجد عملاً يقتات منه وخطيبته، فيفكر أن يسرق ليدفع الضريبة ويفدي رقبته وعروسه، ثم يثنيه شرفُه الثوري عن الفكرة، ثم يقرر أن يشحذ، فيُخفق أيضاً، حيث يقبض عليه العسكر لأنه يرمي باللوم في إنشاده على السلطان! وأخيراً يقرر العروسان التعيسان أن يبيعا نفسيهما في سوق النَّخاسة، ومن جديد تظهر عباءة الأم/ المُخَلّص، لتنجدهما من ويل القادم. يدخلان اليومَ التاريخي الفاصلَ الشاهد على نهاية العصر المملوكيّ وبداية الولاية العثمانيّة. يوم شُنق طومان باي السلطان الجسور المحبوب على «باب زويلة» على يد السلطان العثماني سليم الأول. يبحث محمود في الدولة العثمانية عن عمل يقيم أودَه، فيوقعه حظُّه العاثر في شَرك مخترع تركي أفنى عمره في اختراع آلات تعذيب البشر، ليبيعها للسلطان الجائر. هنا يظهر فاكهةُ الممثلين، الفنان الواعد عماد حمدي، الذي أبدع في تقمّص دور العالِم التركي القادم من الآستانة، لغةً وأداءً وكوميديا ستُسجَّل في تاريخه. يوقّع محمود صكَّ عمله على سلاح جديد اسمه «الخازوق»، فيكون مسمى عمله: خازوقجي، لكنهم يخدعونه ويحاولون تجربة السلاح المستحدَث عليه هو نفسه قبل عرضه على السلطان! فتنقذه الأمُّ، نيرمين كمال، كالعادة في اللحظة الأخيرة، بعباءتها السحرية. وهنا، نعود معه من جديد، إلى سرير غيبوبته، في عصرنا الراهن، عصر مبارك، قبل ثورة يناير. يفكر الطبيب الشريف، الذي أدّى دورَه باقتدار الفنان محمد متولي، في حيلة أخيرة قد تنجح في اعادة الوعي للمصري الساقط في غيهب الغيبوبة. يمسك الطبيبُ الجريدةَ اليومية، ويقرأ بصوت عال أخباراً إيجابية «زائفة» عن مصر: القضاءُ على الفساد، انتهاء الجشع، الغلاء، البطالة، التلوّث، أزمة السكن، أزمة المرور، إسفاف الفضائيات، خلق مشروع قومي للشباب... الخ. وهنا تتحقق المعجزة، بعدما تلتقط أُذنا النائم محمود موجاتِ تلك الأخبار الكاذبة/ الأوهام، يدبُّ الأملُ في حواسّه، فينهضُ المصريُّ من غيبوبته، ويخرج إلى الوعي. تلك الرحلةُ الشاقةُ ليست سياحةً فانتازية في تاريخ مصر، بل تحليلٌ عميق لأزمة مصر الراهنة الضاربة بجذورها في قلب الماضي. تلك التي انتهت، بالفعل، بعودة الوعي الثوري للمواطن المصريّ، لينهض من نومه الطويل ويُسقط دولة الظلم، ليَشْرَعَ من ثم في بناء دولة الحق والعدل.