تمر مصر في هذه الآونة بمرحلة من التحول نحو عهد جديد، بعد إسقاط النظام الذي حكمها لما يقرب من ستين عاماً، منذ الانقلاب العسكري الذي نظمته حركة الضباط الأحرار عام 1952. لذلك، فإن الهدف الرئيس الذي تسعى مصر إلى تحقيقه خلال المرحلة الحالية هو إعادة بناء الدولة، وإصلاح ما أفسدته الحقبة الماضية، نتيجة ما شهدته البلاد من فساد اقتصادي وسياسي واجتماعي، أدى إلى حدوث حالة من الاحتقان بين المواطنين ومؤسسات الدولة، وهو ما يظهر جلياً في حالة انعدام الثقة التي يشعر بها المصريون تجاه الحكومات أو المؤسسات الحاكمة، حتى بعد أن سقط النظام. من هنا نجد أن الأولوية خلال المرحلة الحالية، تتمثل في تحقيق إصلاح داخلي، يشعر من خلاله المواطن المصري بأن هناك تغييراً حقيقياً انعكس على ظروفه الاقتصادية والاجتماعية، ويسمح له بممارسة حقوقه السياسية بحرية من دون تضييق أمني من جانب السلطة الحاكمة. ولعل الدليل على ذلك أن الأوضاع الاقتصادية والمشكلات التي ترتبت عليها، كالبطالة والفقر، إضافة إلى موجة التزوير التي شهدتها إرادة الشعب خلال الانتخابات البرلمانية الأخيرة، كانت العوامل الأهم التي أشعلت الانتفاضة المصرية التي بدأت في كانون الثاني (يناير) الماضي وما زلنا نعيش أصداءها إلى الآن. وعلى رغم أن هناك حديثاً متواتراً حول الدور الإقليمي المصري، والذي توارى كثيراً خلال العصر السابق، تجاه مختلف القضايا الدولية والإقليمية، يثور التساؤل حول ماهية السياسة الخارجية المصرية خلال المرحلة المقبلة، بخاصة في ظل عدد من المبادرات والتصريحات، التي أدلى بها مسؤولو الديبلوماسية المصرية أخيراً حول شكل علاقات مصر مع محيطها الإقليمي والدولي، والتي أثارت في بعض الأحيان ضجة دولية وفي أحيان أخرى اعتراضات داخلية. لو نظرنا الى النموذج الروسي، نجد أن هناك تقارباً شديداً بين ما شهدته روسيا في بداية الألفية الجديدة، عندما تولى الرئيس السابق فلاديمير بوتين مقاليد الحكم في البلاد وبين ما تشهده مصر في المرحلة الحالية. فقد نجح بوتين في أن يقود الدب الروسي نحو الانبعاث من جديد، بعد أن عاشت بلاده أعواماً طويلة من الفساد، أدت إلى حالة من الاضطراب الاجتماعي والاقتصادي في عهد الرئيس يلتسن، الذي ربما لم تشهده روسيا طيلة تاريخها. في الواقع أن السياسة التي تبناها الرئيس الروسي السابق، قامت على ما سمي «مبدأ بوتين»، الذي ركز على تحقيق الاصلاح الداخلي على حساب السياسة الخارجية. فلم تكن الأولوية لدى فلاديمير بوتين هي استعادة المكانة الدولية التي تمتعت بها روسيا، كقطب دولي، إبان عصر الثنائية القطبية، وهو ما يعكس المنظور الواقعي الذي تبناه صانعو السياسة الروسية، خلال فترة التحول. فلم تكن روسيا في تلك المرحلة الحساسة من تاريخها، لتتحمل الصدام مع القوى الدولية الأخرى، وهو ما دفع الساسة الروس إلى تجنب الصدام مع أي من القوى الدولية والاقليمية من ناحية، والعمل على تصفير الخلافات مع الدول المحيطة كافة من ناحية أخرى كما حدث مع الصين والتي سعت روسيا الى تحويل الصراع الديموغرافي بينهما الى شراكة اقتصادية تنعكس بالنفع على الداخل الروسي. وفي هذا الإطار، تبنى الروس سياسة تصالحية تجاه خصومهم التاريخيين، الولاياتالمتحدة الأميركية وأوروبا الغربية، وظهر ذلك جلياً في ما تطرق اليه بوتين من أن جذور روسيا ترتد الى القيم الغربية، إضافة إلى السعي الروسي لتقديم نفسها كشريك للولايات المتحدة في محاربة الارهاب بعد أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر). لذا، فإن روسيا سهلت للولايات المتحدة الأميركية الحصول على قواعد عسكرية في دول آسيا الوسطى، خلال حربها في أفغانستان عام 2001، ربما كمحاولة لنيل الدعم الأميركي في تلك المرحلة الصعبة. من هنا نجد أن السياسة الخارجية الروسية، في مرحلة «ما قبل البناء»، اقتصرت على تحقيق مصلحة الداخل الروسي، على اعتبار أنه الأولوية القصوى. في ظل التشابه الكبير بين الحالة الروسية ونظيرتها المصرية، نجد أن الأولوية في تلك المرحلة لبناء الداخل المصري، حتى وإن كان على حساب السياسة الخارجية المصرية أو ما يسمى الدور المصري. ولعل الديبلوماسية الناعمة التي تنتهجها مصر تجاه محيطها الاقليمي والدولي، منذ أن انطلقت الانتفاضة المصرية في كانون الثاني الماضي، تعكس إدراك صانعي السياسة المصرية لخطورة المرحلة الحالية، والتي قد لا تحتمل كثيراً من المواجهات أو الصدامات مع قوى أخرى، سواء كانت دولية أو إقليمية. أعتقد أن اللهجة التصالحية التي تتبناها الحكومة الحالية تجاه إيران أو دول حوض النيل، تهدف في الأساس الى تحقيق المصلحة المصرية، بعيداً من أي صدام، حتى وإن كان ديبلوماسياً مع أي من الدول التي كانت خصوماً إبان نظام الرئيس مبارك. إلا أن المعضلة الرئيسة في هذا الإطار تتمثل في كيفية الحفاظ على علاقة مصر بحلفائها في ظل مبادراتها التصالحية مع الخصوم، وهو ما قد يفسر الإصرار المصري، على سبيل المثال، على ضرورة الحفاظ على أمن الخليج، كشرط لدفع العلاقات المصرية - الإيرانية. في الواقع، أن الحكومة المصرية لا بد من أن تنظر في الاعتبار إلى النموذج الروسي، والذي استطاع أن يحقق ثورة اقتصادية، ساهمت إلى حد كبير في استعادة المكانة الاقتصادية لروسيا، والتي افتقدتها إبان حقبة التسعينات من القرن الماضي. كما ساهمت كذلك في استعادة الدور الروسي كقوى دولية سيكون لها دور مهم في صوغ النظام العالمي الجديد خلال المرحلة المقبلة. * كاتب مصري