ثمة توقع ولنقل شعور عام بأن أيام شهر رمضان المقبل ستكون أياماً ساخنة في مسار الأزمة السورية، فالمتظاهرون يجاهرون برغبتهم في استثمار ما يوفره هذا الشهر الفضيل من تقاليد وطقوس جمعية من أجل تصعيد احتجاجاتهم إلى مستوى غير مسبوق، بينما يظهر أهل الحكم وأصحاب الخيار الأمني كأنهم في سباق مع الزمن لإفشال هذا الهدف وكسر شوكة الحراك الشعبي. من هذه القناة يمكن النظر إلى العمليات الأمنية والعسكرية التي تتصاعد في شكل لافت، وكيف تمتد الاعتقالات وأعمال القمع والتخويف لتشمل المزيد من النشطاء والكثيرين ممن ليس لهم ذنب سوى المشاركة في اعتصام أو تظاهرة، فضلاً عن تركيز أمني واضح على مدن ومناطق تعرضت في ما مضى للحصار ولم ينجح العنف الهائل في تحطيم روحها ووأد احتجاجاتها، كإشارة لما تتعرض له مدينتا درعا وحمص، في هذه الآونة، من تنكيل وقمع شديدين، ربما بغرض الإسراع في تحويلهما عبرة لمن يعتبر. واستنتاجاً، يمكن أن نفهم هذا الغياب المفاجئ لدعوات الحوار وخفوت الأصوات الباحثة عن حلول ومخارج سياسية للأزمة أو أن نفسر هذه العودة المظفرة للغة التهديد والوعيد ولمنطق استخدام القوة بلا حساب طلباً لحسم سريع، ربطاً مع ارتفاع حمى الدعاية والتحريض ضد مخربين وعصابات مسلحة يقال إنها تعيث، دماراً وتقتيلاً، في البلاد والعباد، وإلباسها عند الضرورة لباس السلفية الجهادية وإمارة طالبان لزيادة جرعة الخوف وتعزيز تردد المترددين وأساساً لتخويف الأقليات التي تختلف في أنماط عيشها وثقافاتها عما يعرف من صور للحياة تفرضها مثل هذه الأصوليات الإسلاموية. ويدرج في السياق ذاته هذا الصخب في الترويج لفكرة المؤامرة ومثله الزخم في التعبئة والتجييش ضد ما تتعرض له البلاد على أنه هجمة تديرها أدوات خارجية، إمبريالية وصهيونية، غايتها النيل من الموقف السوري الممانع، وتالياً هذا الكم من الاتهامات والإدانات بحق بعض الفضائيات العربية التي سعت لنقل الحدث، على أنها أدوات مأجورة في خدمة أصحاب ذاك المخطط المشؤوم. وأن يعمد الخطاب السابق إلى توفير غطاء للحل الأمني وتسويغ العنف ومختلف وسائل القمع والردع، لكن الأكثر سوءاً ما يضمره من إنكار لوجود أزمة عميقة في البلاد تحتاج تالياً معالجة جذرية، ما يشكل في حد ذاته أزمة. فالنظام الذي يأبى الاعتراف بأزمات المجتمع ومشكلاته، ربما لأنها لا تعنيه وربما لأنها تدين سياساته وتفضح إرتكاباته، هو نظام يتخلى عن المسؤولية الملقاة على عاتقه، وأولها البحث عن حلول حقيقية لما يعانيه الناس، فما إنكار وجود المرض إلا تواطؤ مع أسبابه، ولا يقود التشخيص الخاطئ إلى علاج خاطئ فحسب بل يزيد من حدة الداء ويفاقمه وإن خفف لبعض الوقت من أعراضه، الأمر الذي يتضح في معاينة الحالة السورية حيث لا يريد أصحاب الحل الأمني، وبعد شهور من التجريب، الإقرار بأن ما تمر به البلاد هو نتاج أزمة سياسية تحتاج لحلول سياسية، بل قاعدتهم الوحيدة هي الكي، وهو العلاج الوحيد عندهم لكل العلل والأمراض. إذا كانت الأزمة حصيلة تنامي وتداخل مجموعة كبيرة من المشكلات المزمنة والتي لم تجد طريقها إلى الحل، فما تعانيه سورية هو أزمة شاملة وعميقة تطاول مختلف حقول السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة، وتستعصي معالجتها من دون نزع أسبابها المتنوعة، فالعنف ليس بأي حال طريقاً للخلاص، بل حافز لمفاقمتها، ويزيدها مفاقمة الإصرار على إنكارها والهروب من مواجهتها. فإلى متى قد تجدي سياسة الإنكار والهروب إلى الأمام؟ وأي فائدة جناها من رفعوا تلك الشعارات التي ملأت الساحات والميادين عن وطن بخير ومجتمع معافى! هل استطاعت شعاراتهم إقناعهم قبل إقناع الآخرين بأن البلاد هي فعلاً بخير؟ وكم قد ينفعهم، في وقف الاحتجاجات، تكرار الحديث عن الملايين التي تقوم بمسيرات التأييد والدعم للنظام الحاكم، أو المبالغة في عرض صور من غير مدينة سورية، عن حياة تسير في شكل طبيعي، كحركة الأسواق، والنشاطات الاجتماعية، أو السهرات والحفلات، في مقابل الاستهتار بما يجري من عنف وتنكيل وتقزيم التظاهرات على أنها لا تمثل سوى قلة قليلة من الناس تقوم بأعمال خارجة عن القانون! ثم كم بدت هزيلة وعاجزة عن قلب الحقائق، إدعاءاتهم بأن الأحداث الجارية ليست أكثر من تقليد أعمى لما حصل في تونس ومصر، أو محاولاتهم تضخيم بعض المظاهر السلبية التي تشهدها المرحلة الانتقالية بعد انتصار الثورتين هناك أو ما يعانيه الثوار في ليبيا واليمن، لإحباط العزائم وإظهار كم هي تكلفة التغيير كبيرة وكم هي ثمارها هزيلة. ونسأل أيضاً، أين الفائدة في تخفيف أسباب التوتر والاحتقان، من تحويل الأزمة العامة إلى مشكلات جزئية، معيشية وخدمية، ومعالجة ما تيسر منها لإرضاء بعض المتضررين! ومن ينسى عودة الاستياء الشعبي من الأوضاع المعيشية بعد أن امتص الغلاء جل الزيادة في الرواتب والأجور، وكيف فشلت محاولة عزل الحالة الكردية عن الحراك العام بعد قرار منح الجنسية السورية لعشرات الألوف ممن حرموا منها. صحيح أن أصحاب الحل الأمني لا يزالون يعتدون بأنفسهم ولديهم كثير من الثقة بأن أساليبهم القمعية المجربة قادرة على الحسم وإجهاض الحراك الشعبي وإعادة زرع الخوف والرعب في المجتمع، وصحيح أن هناك كتلة شعبية كبيرة لا تزال صامتة وسلبية، تراقب ما يجري بعين من القلق وعين من الأمل، وأن ثمة مناخاً عربياً وعالمياً مشجعاً، لا يزال خجولاً في انتقاداته للعنف المفرط الذي يستخدم ضد المدنيين، لكن الصحيح أيضاً أن تجريب الخيار العنفي على أوسع مدى، وبغير جدوى، وخلال أكثر من أربعة شهور، وما خلفه من آثار سلبية عميقة على النسيج الاجتماعي وعلى الوضعين الاقتصادي والإنساني، لا بد من أن يترك نتائج على صعيد تراجع الثقة بنجاعته وخلخلة الدوائر التي تحبذ الاستمرار فيه. ما يدفع الحلول السياسية إلى الواجهة، فهي وحدها الكفيلة، إن تجسدت بخطوات جدية نحو التغيير الديموقراطي، بامتصاص الاحتقانات وإزالة الأسباب المفجرة للأزمة. نعم، تمر سورية اليوم بمرحلة عصيبة وحساسة من تاريخها، ويرجح أن تشهد الفترة المقبلة جولة خاصة من الصراع قد تفضي نتائجه إلى رسم صورة أوضح لمسار أزمتها المركبة وأفق تطورها. هل تستمر الأمور على المنوال ذاته وكأننا أمام حرب استنزاف طويلة قد تنهك الجميع، أم نقف على أبواب مرحلة جديدة عنوانها تفكيك الآليات الأمنية وقلب القواعد التي خنقت لأمد طويل حقوق الإنسان والحياة السياسية في البلاد.