في الوقت الذي تظاهر الآلاف في تايلاند رافعين شعار «إرحل» و «أوقفوا الانقلاب» ضد المؤسسة العسكرية التي اعتبرت أن الديموقراطية أضرت بالبلاد، خرج عدد كبير من المصريين في 30 حزيران (يونيو) رافعين شعار «إرحل» و «الشعب يريد إسقاط النظام» بيد وفي اليد الأخرى «الجيش والشعب إيد واحدة». لم يكن هذا الملمح وحده الذي يفرق بين القاهرة وبانكوك التي شهدت نحو 19 انقلاباً أو محاولة انقلاب منذ انتهاء الملكية المطلقة في العام 1932 مقارنة بالقاهرة التي تدخل فيها الجيش على خط السياسة مرتين، إحداهما في خمسينات القرن الماضي بعدما دخل المناخ السياسي آنذاك مرحلة الشحن، وتنامي عمليات الفساد، وسيطرة النخبة الملكية على مفاصل الدولة من دون اعتبار للطبقات الكادحة، وصاحب التدخل العسكري من عبدالناصر ورفاقه حراك شعبي ساعده على البقاء في صدارة المشهد، وجاءت المرة الثانية بعد أن دخلت البلاد في صراع محتدم بعد رحيل مبارك وتولي جماعة «الإخوان» مقاليد السلطة في العام 2012، واتساع الهوة بينها وبين عدد هائل من القوى السياسية التي ساندتها في جولة الإعادة الرئاسية وقطاعات شعبية واسعة، وإصرار «الجماعة» على تفصيل المشهد المصري على مقاس طموحاتها السياسية، وكان الحراك مصحوباً هذه المرة أيضاً بغطاء شعبي منحه زخماً ربما كانت المؤسسة العسكرية أحوج ما تكون إليه لضمان بقائها في المشهد. وطبيعة الاستجابة للأزمة علامة أخرى على التباين الجوهري بين مصر وتايلاند، ففي الأولى غض النظام الطرف عن الاحتجاجات المجتمعية بل ذهب أبعد من ذلك حين أصدر الرئيس مرسي سلسلة من التعديلات الدستورية الاستثنائية من دون مراعاة لطبيعة التوازنات السياسية والمستجدات الاجتماعية والنفسية التي أفرزتها ثورة 25 يناير. وعلى رغم أن الفجوة بين النظام في مصر آنذاك ومعارضيه وصلت إلى ذروتها، إلا أن الفرصة كانت قائمة حتى آخر لحظة، خصوصاً بعد دعوات عدة للرئيس مرسي بالتجاوب مع ضغوط الشارع السياسي والتوصل إلى تسوية تضمن تفعيل المسار الديموقراطي، إلا أن مراوحة النظام واستجابته البطيئة لتداعيات المشهد زادتا من تعقيد الموقف. في المقابل كانت الحكومة في تايلاند أكثر مرونة في التعامل مع الأزمة التي تعود إلى العام 2006 بعد إطاحة رئيس الوزراء السابق تاكسين شيناوترا بانقلاب عسكري. وتجددت الأزمة في العام 2013، عندما تقدمت حكومة ينغلوك بمشروع قانون العفو الذي رأت فيه المعارضة أنه يمهد لعودة شقيقها تاكسين الذي يعيش في منفى اختياري ومحكوم عليه غيابياً بتهم تتعلق بالفساد. وعلى رغم تراجع الحكومة عن مشروع القانون، فإن المعارضة التي أثارها مشروع القانون أصرت على الاحتجاج ضد الحكومة. لذلك لجأت ينغلوك شيناوترا وعلى عكس النظام في مصر إلى مسكنات قوية لتقليص الأزمة، فحلّت البرلمان ودعت إلى انتخابات مبكرة، إلا أن إصرار المعارضة على تسخين الأزمة، ودوراً خفياً للجيش من وراء الستار أدّيا في نهاية المطاف إلى وقوع البلاد في جحر الجيش ليخرج الطرفان خارج اللعبة السياسية تماماً. وفي الوقت الذي عبّرت الولايات المتحدة ودول أوروبية عن القلق العميق تجاه الانقلاب العسكري في تايلاند، وحذرت من أن البلاد تقف في مفترق طرق بين مواصلة الطريق نحو تحول سياسي وتجاوز الأزمة السياسية أو السقوط في هوة الفوضى والانقسام، نفت وزارة الخارجية الأميركية وجود تشابه بين الأحداث التي وقعت في تايلاند وما حدث في مصر في 30 يونيو قائلة «إن الظروف مختلفة في كل بلد على حد سواء». وإذا كان جون كيري وزير الخارجية الأميركي اعتبر أن الانقلاب في تايلاند سيلقي بظلال سلبية على العلاقة مع واشنطن، مشيراً إلى احتمال تجميد معونات بقيمة 10 ملايين دولار لتايلاند، فهو ذاته اعتبر أن جماعة الإخوان في مصر كانت وراء ضياع الديموقراطية التي نالها الشعب المصري في ثورة 25 يناير، وأن العلاقة مع مصر استراتيجية، وثمة شوط كبير قطعته القاهرةوواشنطن على صعيد التقارب السياسي، وكان بارزاً هنا، إعلان واشنطن في 24 نيسان (أبريل) الماضي قرب إتمام إجراءات تسلم القاهرة 10 طائرات أباتشي لدعم عمليات مكافحة الإرهاب في سيناء. خلف كل ما سبق يبقى ملمح أخير بالفصل بين الحالتين، وهو طريقة إدارة الأزمة، ففي الوقت الذي سعت السلطة الانتقالية المصرية المدعومة من القوات المسلحة إلى تجاوز الأزمة عبر حوار مشروط مع مناهضيها، وإنهاء التوتر طواعية حفاظاً على الصورة الذهنية للسلطة الجديدة في الوعي الجمعي الدولي، فثمة حالة مغايرة تماماً في تايلاند، إذ أعلن الجيش منذ اللحظة الأولى للاستيلاء على السلطة أن هدفه الرئيس القضاء على المعارضين له، لذلك حظر التجمعات العامة لأكثر من خمسة أشخاص وفرض حظراً للتجول، وإن كان هذا التدبير لم يمنع خروج المئات للمعارضة. هذه الإجراءات هي أهم ما يفرق بين حال القاهرة وبانكوك، وإن ظلت بعض المتشابهات تجمعهما، أولها استمرار حالة الاستقطاب السياسي والمجتمعي داخل الدولتين، خصوصاً بعد إقدام المؤسسة العسكرية فيهما على حل المجالس النيابية وتعطيل الدستور المعمول به، وبينما تمكنت مصر نسبياً من معالجة هذا الاحتقان بعد تمرير دستور جديد قبل شهرين وإجراء انتخابات رئاسية، تبقى تايلاند في مفترق طرق، مع إمساك الجيش بمفاصل الدولة وفرض رقابة على وسائل الإعلام بمختلف اتجاهاتها وتوجهاتها وإجراء تغيير شامل للخريطة السياسية في البلاد. ويرتبط وجه التشابه الثاني بارتفاع معدلات البطالة إلى مستويات غير مسبوقة، حيث وصلت في مصر إلى ما يقرب من 13 في المئة وفق الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء وتجاوزت حاجز ال 10 في المئة في تايلاند. وعلى رغم البرامج الاجتماعية والاقتصادية التي تبنتها المؤسسة العسكرية في مصر وفتح وزارة الإنتاج الحربي للمرة الأولى أبوابها أمام تدريب الكوادر المدنية مقارنة بأخرى يسعي الجيش التايلاندي إلى تطبيقها، وبدا ذلك في استدعائه رجال أعمال وموظفي الدولة للمشاركة في دفع عجلات الاقتصاد المتعثرة، إلا أنهم عجزوا عن معالجة قضايا الفقر والبطالة التي تؤرق قطاعات واسعة في المجتمعين. يبقى وجه ثالث للشبه، ويرتبط بسلوك المؤسسة العسكرية تجاه الأزمة، فبينما سارع الجيش التايلاندي إلى التحفظ على أطراف الأزمة سواء أعضاء الحكومة ورئيسة الوزراء أو أقطاب المعارضة، فضلاً عن منع 155 شخصاً بينهم ساسة وناشطون من السفر الى الخارج إلا بإذن في خطوة استباقية لمنع تأسيس ما يسمى حكومة المنفى، تحفظ الجيش في مصر على الرئيس المعزول محمد مرسي وتم إخفاؤه في مكان غير معلوم حتى تم تقديمه إلى القضاء بتهم عدة من بينها الإضرار بالمصالح العليا وبالأمن القومي للبلاد. وفي الوقت الذي أغلقت السلطة الانتقالية في مصر عدداً من القنوات الفضائية الدينية بزعم أنها تحض على العنف وتزيد من الاحتقان المجتمعي، كمم الانقلاب في تايلاند الأفواه وأغلق كامل المحطات التلفزيونية، وهدد بإغلاق مواقع التواصل الاجتماعي وقطع خدمة الانترنت حال استمرار التحريض ضد الانقلاب العسكري الأخير في البلاد، وهددت السلطة العسكرية باعتقال من يخالف هذه التعليمات. ومثلما لجأت المؤسسة العسكرية في مصر إلى فرض حظر التجول، وملاحقة بعض رموز حكم جماعة «الإخوان»، اتخذ الجيش في تايلاند قراره بفرض الأحكام العرفية في 20 أيار (مايو) ثم استولى على مقاليد السلطة في 22 منه بمباركة الملك الذي أكد في بيان تلاه على شاشات التلفزة أنه لم يجد أمامه سوى القوة بعد تفاقم الاحتجاجات. المهم الآن أنه في الوقت الذي يواجه الجيش في تايلاند تحدياً شعبياً متصاعداً لانقلابه، ثمة تراجع في حظوظ الجيش المصري بين أنصاره، كشفته مناخات التصويت غير المتوقعة في معركة الانتخابات الرئاسية التي خاضها المرشح اليساري حمدين صباحي والمشير عبدالفتاح السيسي المحسوب على المؤسسة العسكرية. * كاتب مصري