العراق بلد زراعي، ومنذ مطالع القرن العشرين بدأ يتجه نحو الصناعة، وهو بإمكانياته المعروفة، يمكن أن يصبح بلداً صناعياً أيضاً. وإذا كان نظام صدام قد أعاده إلى الوراء جراء الحروب والديكتاتورية، فقد كان أولى بحكام العراق الجدد تهيئة البنى التحتية لنهضة زراعية وصناعية جديدة. ولو كانوا يملكون استراتيجيات لهذه النهضة لرفعوا شعاراً «لنُنتج مواد الحصة التموينية محلياً»، وهو أمر ممكن جداً، ومن شأنه تنشيط سوق العمل والتجارة الداخلية وتقوية العملة الوطنية، بدل تبديد عشرات المليارات على استيراد مواد الحصة من الخارج وما رافقه من فساد خطير وصل الى استيراد نشارة خشب مصبوغ بالأسود لتوزع على المواطنين باعتبارها شاياً، ناهيك عن أطنان المواد المنتهية الصلاحية التي تم تمريرها على المواطنين أو تلك التي اكتشفت وحُرقت في مختلف المحافظات في السنين الماضية! فلماذا الاصرار على حالة التخلف الاقتصادي وتكريسها؟ إن الدول والمؤسسات الاقتصادية في مختلف بلدان العالم المُصنّعة، بدءاً من سويسرا مروراً بالهند وبعض الدول العربية وليس انتهاءً بالصين، تبنّت في تطورها النظرية المعاصرة لصناعة الثروة، والتي تعتمد على المعرفة والمعلومات والكفاءات العلمية التي تستخدم المعرفة وتدير المعلومات، بما يضمن نجاح المشاريع الصناعية والزراعية. لكن في «العراق الجديد» يحدث العكس تماماً، ففي العراق عائدات نفطية تقدر بأكثر من ستين مليار دولار سنوياً، وفيه أيضاً 130 ألف مهندس، ناهيك عن العلماء في مختلف الاختصاصات، أي انه يملك ثروة طائلة وكفاءات علمية متقدمة في وسعها النهوض بالبلد في مختلف المجالات، لكن ما حدث ويحدث واقعياً هو هدر الثروة وإبعاد الكفاءات والاعتماد على الجهلة وحملة الشهادات المزورة والضمائر المزورة، بل والدفاع عنهم في شكل مستميت لدرجة قدمت معها «كتلة الاحرار – تيار الصدر» للبرلمان أخيراً مشروع قانون للعفو عن حملة الشهادات والوثائق المزورة، وهؤلاء يتراوحون من درجة وزير فما دون، وهذا ما لم يحدث في جميع دول العالم، إذ تم تأجيله لدمجه لاحقاً بقانون «العفو العام» عن الفاسدين والقتلة المعتقلين ممن عاثوا بالعراق خراباً ضمن «صفقة سياسية» جديدة ضحيتها حقوق العراقيين ومستقبل بلادهم! ولكن لماذا يحدث هذا، وكيف تفكر الأحزاب التي تحكم العراق منذ 2003؟ أخيراً قال النائب جواد الحسناوي «إن أمام البرلمان الآن ستة عشر ملف فساد لستة عشر وزيراً من الحكومة السابقة، هم جميعاً يمتهنون التجارة، ستُعرض على البرلمان الأسابيع المقبلة» (فضائية البغدادية 6 الشهر الجاري). وهذه الإشارة لظاهرة «السياسي التاجر» تعيدنا إلى أصل أزمة الحكم وأصل الفساد فيه، فقد قامت الأحزاب الكردية والدينية منذ البداية بتكريس تفسيرها الخاص لنظام «الاقتصاد الحر»، ويتلخص بفتح أبواب البلاد للتجارة الخارجية وإماتة الصناعة والزراعة المحلية. فبالإضافة الى فضائح تبديد المال العام، امتلكوا هم وأتباعهم الوكالات التجارية الرئيسة. ومن هنا نشأت ظاهرة «السياسي التاجر»، إذ يتم التلاعب على القوانين لنهب أموال الدولة بطريقة منتظمة و «شرعية» كما يعتقدون. فالدولة تدفع أكثر من خمسين مليار دولار سنوياً كرواتب للموظفين، والموظفون ينفقونها على شراء البضائع التي يستوردها الوزراء وقادة البلد، فتذهب المليارات إلى جيوب هؤلاء السياسيين التجار! إن التفسير الواقعي لاستمرار أزمة الكهرباء يكمن هنا، وليس في تفسيرات الحكومة، أي في برنامج هؤلاء السياسيين التجار لتمويت الصناعة والزراعة اللتين تعتمدان أساساً على الكهرباء، وتكريس التجارة الخارجية، لا سيما أن تجارة المولدات الكهربائية تدرّ بدورها أرباحاً طائلة. ووفقاً للناطق باسم الحكومة في ندوة في لندن في 2009، فإن «العراق لا يحتاج الى الصناعة والزراعة وفي وسعه أن يعيش على السياحة وعائدات النفط»! إن هذه «النظرية» أدت الى تعطيل سوق العمل وتغييب الطبقة الوسطى المُنتجة وإهمال التعليم المهني، وهي تختصر سياسة الحكم التي كرّست ظاهرة «السياسي التاجر» ووفرت كل الإمكانيات لتطوير عمله وثروته! وتأكيداً لهذا الواقع، فقد أكدت وزارة الصناعة والمعادن أن هناك عجزاً كبيراً في امكانية توفير المبالغ التشغيلية والرواتب لمنتسبي الشركات التابعة لها، وقال وزير الصناعة احمد ناصر دلي أخيراً: «ان هناك ثماني شركات فقط تابعة للوزارة (من أصل 130 مؤسسة صناعية) تتمكن من تأمين رواتب منتسبيها! ونقلاً عن جريدة «الصباح» الرسمية، فقد وجّه عدد من الصناعيين، اصابع الاتهام الى جهات في الحكومة بتأخر الصناعة الوطنية وإغراق الأسواق المحلية بالسلع المستوردة، وهي في الغالب من نوع رديء، ووفقاً لجهات معنية، فإن السبب الأساس في تأخر الصناعة هو نقص الطاقة الكهربائية وارتفاع أسعار الوقود، فقد اتهم رئيس اتحاد الصناعات العراقي نزار الوائلي «جهات حكومية بعرقلة تقدم الصناعة والوقوف في وجهها، وعزا تأخر الصناعة الوطنية الى سلوك خاطئ ومقصود مارسته وزارة الصناعة والمعادن»، موضحاً ان الاتحاد كان لديه «مشروع طموح أطلقه منذ نحو عام لتأهيل الصناعات العراقية المتوقفة، اضافة الى إدخال المكننة الحديثة الى الخدمة»، ولكن من دون جدوى، وفي مقابل عرقلة الصناعة منحت وزارة التجارة في حزيران (يونيو) الماضي فقط 1350 اجازة استيراد مقابل 51 إجازة تصدير! ولكي تُرسّخ الطبقة الحاكمة أسس المجتمع الاستهلاكي فقد كرّست كل المساوئ اللازمة لذلك، وأولها إهمال التخطيط المستقبلي، وعدم احترام عامل الزمن، فبين العطل الرسمية وعطل الطقوس الدينية يتم تعطيل النشاط الاداري والاقتصادي أكثر من مئة يوم سنوياً، وهذا لا يؤدي الى خسائر بمليارات الدولارت فقط، بل ويسبب أزمة حقيقية لصغار التجار والعمال المياومين، وفي وسع الأحزاب والمراجع الدينية التأكد من مأساة هؤلاء خلال شهور اللطم والتطبير حيث تتعطل الحياة العامة في معظم المحافظات! وعلى رغم تراكم ملفات الفساد في وزارة التجارة ووضوح الشخصيات التي تحوم حولها الشبهات، إلا إن أحداً من المسؤولين لم يُحاسَب لحد الآن، ما يضع علامات استفهام أمام القضاء العراقي أيضاً. إنها طبقة السياسيين التجار التي تقود العراق إلى كارثة من دون أن تحسب للعواقب حساباً! * كاتب عراقي