منذ أيام التقيت بالمدير العام للمكتبة الوطنية بالأوروغواي فراح يكلّمني عن أشياء كثيرة لها صلة بالكتاب والثقافة والفنّ. ولمّا أنهى كلامه قلت له: «نحن لا نعرف سوى فورلان وسواريس وتاباريز...»، فانفجر ضاحكاً وقال لي: «نحن أمّة من أربعة ملايين نسمة، لكننا نبعد النوم عن جيراننا، البرازيل والأرجنتين...»، وأضفت «أخشى أن تفعلوها في كأس أمم أميركا...»، وبدا متواضعاً حين قال لي :«لو أننا نفعل مثل الذي فعلناه في كأس العالم بجنوب أفريقيا، فسيكون ذلك إنجازاً كبيراً...»، فعقبت على كلامه بقولي: «بلغتم نصف النهائي في المونديال، أي أفضل من البرازيل والأرجنتين، ومعنى هذا أنكم ستفوزون بكأس أميركا...» فلم يعلّق، واكتفى بابتسامة شخص متحفّظ. قلت له: «هل تعلم أنّنا في الجزائر كنّا نشجعّكم في كلّ مبارياتكم، إلاّ ضدّ غانا التي خطفتم منها التأهل؟». فجمع قواه وقال لي بلغة المثقف: «يكذب من يقول إننا في أميركا اللاتينية موّحّدون. لا تصدّقوا كلام وسائل الإعلام». قلت له «أعرف ذلك جيّداً، لأنّ الحكمة عندنا تقول: القافلة قافلتنا جميعاً، لكنّ ليبقى كلّ واحد عينه على بعيره». فضحك الرجل لأنّ ترجمة هذه الحكمة من العربية إلى الإسبانية تتطلّب المرور عبر جبل طارق إلى الأندلس وعبور الأطلسي إلى مونتفيديو. إنّ ما رأيناه في كوبّا أميركا هذه الأيام من انقلاب حقيقي في معادلات الجلد المنفوخ يؤكّد أمرين لا ثالث لهما، الأول إمّا أنّه فعلاً لم يعد هناك صغار في الكرة وأنّ الأسماء الكبيرة المكرّسة لم تعد قادرة على صناعة الفارق، وثانيهما أنّ منتخبات الصفّ الأوّل تعيش حالة «ميتامورفوز» بعد أن وقعت عليها تحويرات جوهرية بعد مونديال مانديلا الذي خرج منه ميسي منسيّاً.. وروبينيو منفيّاً (..) وليس أمامها إلاّ أن تنسى كأس أميركا، وضربات الترجيح المقيتة، لتفكّر في ما هو آت، وتترك أمر اللقب هذه المرة لتوأمي الاسم المتشابه واللعب الأقل تشابهاً الأوروغواي والباراغواي. وإذا كانت أميركا اللاتينية هي معمل إنتاج النجوم بامتياز وتسويقها إلى أوروبا وبقية العالم، فإنّ كوبّا أميركا هذه الأيّام لا تختلف عن سوق تاجنانت عندنا، والتي قال بشأنها أحدهم: «تجد فيها كلّ شيء إلاّ أبويك». ولهذا فإنّ توقيتها جاء في أوج الصفقات الخاصّة بالعصافير النادرة، فليس هناك أقلّ من ثلاثين لاعباً من طينة مفقودة، شاهدهم الناس في ملاعب الأرجنتين، من بوليفيا وكولومبيا والبيرو والشيلي وبقية المنتخبات. فهذه بداية موسم الهجرة من أميركا الجنوبية إلى الشرق. والحديث عن الشرق يقودنا إلى موجة الهجرة التي اعترت النجوم الجزائرية والمغربية المحترفة، فأسود الأطلس اختاروا الوجهة السعودية، ومحاربو الصحراء اختاروا الوجهة القطرية، وبين اختيار هذا وذاك لم يقل غيرتس أيّ شيء لأنّه سبقهم إلى هناك، فكان مدرّباً للهلال، ولم يصدر عن خليلوزيتش أي تصريح لأنّه سبق غيريتس هناك مدرّباً للاتحاد السعودي، والذي دفع البلجيكي والبوسني لتدريب أندية خليجية، أي المال هو الذي يحرّك شهوة لاعبين جزائريين ومغاربة في أندية أوروبية للعب في دوريات يتفاوت أداؤها من موسم إلى آخر. ولا غرابة أن ترتفع أصوات في المغرب والجزائر تقول إنّ المفاضلة بين الكرة والمال تقضي بأن يقصى هؤلاء اللاعبون من منتخباتهم، لأنهم سيكونون دون المستوى الاحترافي الذي يبدو عالياً في أوروبا ومحدوداً في البلاد العربية، أي أنّ اللاعب يقصد أوروبا في أوج شبابه ويعرّج نحو الخليج عندما يدنو يقارب الإحالة على المعاش. وأمام مشهد كهذا لا غرابة أن نرى الكلّ يدوخ بين جلد مسلوخ وجيب ومنفوخ. *الريال: المقصود به العملة السعودية والقطرية وليس ريال مدريد. [email protected]