لم تستوعب تركيا بعد مشهد صبي ملثم خرج من تظاهرة ليقفز فوق سور القاعدة الجوية في دياربكر جنوب البلاد، متخطياً أسلاكاً شائكة لينزل العلم التركي من ساريته ويلقي به أرضاً بين المتظاهرين، ثم يخرج سالماً من دون أن يمسّه جنود القاعدة. إنها صورة يصعب على العقل التركي تفسيرها، إذ يحتفظ بذاكرته بصورة قبرصي حاول إنزال العلم التركي على الحدود بين شطري الجزيرة عام 1996، وكيف أردته القوات التركية المرابطة هناك قتيلاً في لحظات، برصاصة في رأسه بلا تردد. تبرير الجيش عجزه عن التصرّف، بإشارته إلى أن الصبي ما زال يافعاً وبوجوب تجنّب زيادة التوتر من خلال عدم إطلاق النار، لم يشفِ غليل وسائل إعلام قومية كثيرة وغالبية الأحزاب السياسية، بما في ذلك رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان الذي رفض حجة صغر السنّ، مؤكداً ضرورة إطلاق النار على كلّ من يتجرأ على العلم التركي، وأمر بإجراء تحقيق عسكري في القاعدة وجنائي حول التظاهرة والمشاركين فيها. أما المعارضة، بشقيها اليساري والقومي، فنعت المؤسسة العسكرية معتبرة أن قواعدها العسكرية والجوية المحصنة، باتت عاجزة عن صدّ اقتحام طفل كردي خرج في تظاهرة احتجاج على مقتل شخصين برصاص الجيش قبل أيام في قرية ليجة قرب دياربكر. ودعا رئيس «حزب الشعب الجمهوري» كمال كيلجدارأوغلو رئيس الأركان إلى الاستقالة، فيما حمّل رئيس «حزب الحركة القومية» دولت باهشلي الحكومة مسؤولية «تردّي وضع الجيش وتكبيل يديه» في مواجهة المسلحين الأكراد، بعد إبرام اتفاق مع زعيم «حزب العمال الكردستاني» عبدالله أوجلان زعيمهم على خطة تسوية سرية لم يُعلن عنها بعد. واتهمت المعارضة ووسائل إعلام، أردوغان والرئيس عبدالله غل بالتأخّر في التنديد بإنزال العلم، في انتظار أوجلان الذي تبرأ مما حدث، إذ اعتبره «عملاً استفزازياً يجب التحقيق في مجرياته». ورأت الحكومة في الحادث وتداعياته محاولة من طرف خفي لتفجير الوضع المتأزّم أصلاً بين السلطة و«الكردستاني»، خصوصاً أن «حزب السلام والديموقراطية»، الذراع السياسية ل«الكردستاني»، استنكر الحادث مطالباً بتحقيق، كما أشاد بتوقيف خمسة مشتبه بهم، مؤكداً ضرورة اتساع التحقيق ليشمل العسكريين في القاعدة. في الوقت ذاته، هدد النائب الكردي دمير شيليك أمام عدسات الكاميرات، بعودة الحرب مجدداً إلى تركيا، إذا لم تصدر الحكومة قراراً بحكم ذاتي في المناطق الكردية، فيما وجّه مراد كلكان، القيادي العسكري في «الكردستاني»، رسالة للحكومة مفادها أن صبر الحزب بدأ ينفد، إذ يتهمها بالتهرب من تنفيذ وعودها بمنح الأكراد حقوقهم السياسية. وحذر خبراء أمن من أن إنزال العلم التركي يشي بالوضع النفسي السيء الذي يعاني منه الجيش، بعد اعتقال كثيرين من قادته، في وقت يزداد «الكردستاني» قوة وتأثيراً في جنوب شرقي تركيا، إذ لا يتردد في قطع طرق ونصب حواجز وخطف مدنيين وعسكريين، علماً أن الوقت يعمل ضد أردوغان الذي يأمل بخوض انتخابات الرئاسة في آب (أغسطس) المقبل، مسلحاً بأصوات الأكراد الذين تزداد طلباتهم عدداً وصعوبة. على صعيد آخر (أ ف ب)، اعتبرت منظمة العفو الدولية في تقرير أصدرته أمس، أن حكومة أروغان تنتهج سياسة «أكثر قمعاً من أي وقت» ضد معارضيها، وتحمي أجهزة أمنية باعتماد سياسة «الإفلات من العقاب». ونددت المنظمة بقوانين جديدة «تقيّد الوصول إلى مواقع التواصل الاجتماعي» و»الإصلاحات المتخلّفة» في القضاء، لافتة إلى أن «حزب العدالة والتنمية (الحاكم) اختار طريق اللاتسامح والنزاع والاستقطاب».