( 10/ 4/ 2011) بيوت صغيرة مترامية، زرائب ماعز، وروائح فقر، ورجال يظهرون، الغالبية منهم بلحى طويلة، ونساء متلفحات بالسواد، كلهن بالأسود، لا تبدو سوى عيونهن، سأعرف لاحقاً أن الأهالي كانوا يجتمعون بالعشرات في الحارات الجانبية، لينضموا إلى المتظاهرين في الساحة، صرنا في قلب دوما، لذلك توزعت الحواجز العسكرية والأمنية في كل مكان لتمنع وصولهم. الحواجز حتى في الأزقة! والسيناريو يتكرر. قلت للسائق: «اتخذ وضعية الضائع معهم، نحن نريد الخروج لأننا ضعنا، هكذا نقول لرجل الأمن والعسكر». قلت للحواجز العسكرية ورجال الأمن الكلام نفسه، «أنا ضائعة وأريد الخروج من هنا، وما سبب كل هذا؟»... فيردون بالجواب نفسه: «ما في شي»، ولما كنت أتجاوزهم وأرى رجال البلدة أسألهم عن ساحة البلدية. أخيراً وصلنا ساحة البلدية، وقفت السيارة إلى جانب سيارة الهلال الأحمر. الساحة محاطة بالأمن، لم يقتربوا من المتظاهرين على الأقل حتى الساعة الثالثة ظهراً حيث كنت هناك، المتظاهرون لم يتجاوزوا الألفين، والعسكر ورجال الأمن، في كل الزوايا، المتظاهرون يرفعون أعلام سورية، ويافطات بشعارات: «الله سورية حرية وبس». لافتة أخرى: «لا سنية ولا علوية، لا دروز ولا اسماعيلية، نحنا كلنا سورية». وبعض أغصان الزيتون أيضاً، يبدو أن الزيتون صاحبهم! النساء غير موجودات، أحاول الاقتراب أكثر، يقترب مني ثلاثة رجال، يمسكون بي من يدي، ويقولون بهمس: «شو بدك؟»، أقول ببلاهة «عم اتفرج، ضيعت طريقي، ليش شو في؟»، يفلتني الرجلان، ويقول أحدهم بلهجة آمرة: «ما في شي ما في شي. يلا روحي فوراً». في طريق عودتي، أسأل الأهالي عما حدث الجمعة الماضية، كانوا متحفظين وحزانى، ولكنهم يروون لي كيف خرجوا للتظاهر في شكل سلمي، وكيف انهمر الرصاص فوق رؤوسهم، وكيف اضطروا أن يحرقوا البناء المقابل للساحة، من أجل إنزال القناصة الذين كانوا يعتلون الأسطح ويقتلون الشباب، يتحدثون عن الشهداء وعن خصالهم الحميدة، وأثناء حديثهم، لا ينظرون في وجهي، حتى المرأة التي حدثتها، كانت تنظر بخوف. وعندما اقتربت من أحدهم أسأله، رد بهذه الجملة: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم»، كنت مستفزة، وأعرف ما يعنيه وجود امرأة الآن، لكن ولأنني كنت بين الفكين دائماً، فقد صرت أتجاهل ما يقولونه، وتابعت طريقي بالطريقة نفسها، كنت ضائعة كما أبدو فعلاً، وأريد الخروج. حواجز تليها حواجز، رجال أمن وعسكر دائماً! في الحاجز الأخير، شعرت بالإرهاق، وبدأ نفسي يضيق، نظرت ورائي إلى دوما، كانت بلدة محتلة. وفي جعبتي الكثير من القصص. في طريق عودتي مروراً بحرستا كنت أقول: «يوم بلا دماء؟» سيكون هذا رائعاً. لم أكن أعرف أن هناك دماء غزيرة سفكت في مدينة درعا، وأن أكثر من أربعين شهيداً في هذه الجمعة، وربما العدد أكبر، وأن كل المدن السورية تشهد حركة احتجاجات مماثلة، حتى داخل دمشق هناك احتجاجات وضرب ورصاص، في حمص إضافة إلى الضرب والاعتقال، أسمع قصة أحد الضباط الذين قتلوا على يد رجال الأمن، بعد أن أردوه برصاصتين في رأسه، لأنه رفض إعطاء الأوامر لجنوده بإطلاق النار على المتظاهرين، ولم أعرف أن هذه الجمعة التي أطلق المتظاهرون عليها اسم «جمعة الصمود» ستكون منعطفاً في تاريخ سورية، وأنها ستشكل أكبر حملة احتجاجات واسعة شهدتها المدن، وأكبر عدد من الشهداء، وسيشارك فيها حتى الأكراد إلى جانب العرب على رغم منحهم الجنسية، وأن هذا يعني ببساطة، أن ما قاله رئيس البلاد عن الإصلاحات، لم يشكل بالنسبة إليهم سوى أمر واحد: هو رفضها. ولم أعرف أيضاً حتى لحظتها ونحن ندخل حرستا مغادرين دوما، أنني بعد قليل سألمح للمرة الأولى في حياتي وجه قتيل، وظل قاتل! أثناء طريق العودة من حرستا لمحت الشباب الذي نزلوا من الباصات، ولم ألمح الرجال الذي كانوا يوزعونهم، سيختفي الرجال، ويبقى رجال الأمن المنتشرين بكثافة، وهم فقط من سأراهم، قيل لي، ان أعداداً أخرى جاءت، لكنني سألمحهم وهم ينقضّون على الناس المتظاهرين، سيقول لي أحد الرجال إن هؤلاء يقولون عن أنفسهم إنهم مؤيدون، أحاول الاقتراب، هناك رجال يحملون بأيديهم عصياً يضربون الناس بها، تتعالى أصوات إطلاق النار، وأركض بجانب أحد المحال التجارية، وهناك أرى تلك الوجوه الشابة التي نزلت من الباصات يهجمون على الناس. عيون المهاجمين بيضاء أو ربما خيّل إلي، على رغم أن شمساً مخاتلة كانت تتسرب أحياناً وتضيء الملامح، إلا أنني لمحت فقط عيوناً بيضاء فارغة، ومن ثم لمحت ذلك الدم، لم أعرف كيف حدث ما حدث، وأنا أنزل بين الأقدام، وأحاول الابتعاد، حوصرت، ووجدت نفسي فجأة على الأرض. رأيت وجهاً نائماً، نصف إغماضة للعينين، تقول جدتي إن هذا النوم يسمى «نوم الغزلان» الناس حول الوجه النائم تتدافع. أنا أقول، نوم، لأن الموت هو نوم. الفرق بين النوم والموت، أن الموت نتحلل بعده. في النوم، نستعد لتحلل آخر. فرق بسيط. هل سيتحلل هذا الوجه الشاب بعد حين؟ كيف ستقبّل أمه جبينه قبل أن يغمره التراب؟ يصير جلدي حجراً. أهرب من الناس المتدافعين، ولطمة حارة تصيب ظهري، أنظر خلفي، فإذ بها تلك العصا الجلدية التي لمحتها في أيدي رجال الأمن، لا أعرف من أين جاءت الضربة. ألم حارق من أسفل ظهري، ينزل إلى باطن قدمي، وعيون مخيفة تحدق بي، ركضت بعد أن استطعت الوقوف، لمحت وجه القتيل ثانية، وعلى مقربة منه كل وجوه القتلة. من يضرب الرصاص؟ من أين يأتي الرصاص؟ ربما يكون هناك قناصة، رأسي ربما يكون هدفاً! يصرخ شاب ويدل على رجل في أعلى بناء، ألمح عن بعد خيال رجل فوق سطح بناء. أمسكني شابان وخلصاني من المجموعة، وقالا: «الله يخليكي روحي يا أختي!». الكل هنا ينادي النساء أختي! النساء بالغالب منقبات والبقية محجبات، تذكرت سعدالله الجابري في عام 1944 وكان حينها شكري القوتلي رئيساً للدولة، وكانت تلك المرحلة تضم عائلات دمشقية سمحوا لبناتهم بالسفور، وأنشئت جمعيات مختلطة للرجال والنساء، وعندها قامت قيامة رجال الدين وطالبوا بإيقاف هذه الجمعيات، فذهبوا إلى الجابري وصارت هناك مشاحنات وإطلاق نار، وطلب منهم أن يكون هناك وفد منهم لمحاورته، وفي فندق «الأورينت بالاس» في دمشق، وقف فيهم ورد على مطلبهم بإيقاف الجمعيات، بأن طلب منهم أولاً، وقف ممارستهم ضد البنات السافرات، حيث كانوا يرمونهن بالنار، وقال للشيوخ: «يا شيخي بدك تلبس بنتك خيشة ما حدا بقلك لأ، واللي بدو يلبس بنتو سفور ما إلك دخل فيه، مع السلامة». حاولت أن أجد امرأة واحدة لأحاورها براحتي، لا يوجد نساء في الشارع، لكن هناك صراخ نساء وأصوات اطلاق نار من بعيد؟ عدت إلى السيارة. كنت في نهاية يومي حينها، أعود من يوم ورق. ورق من لحم ودم وعويل ورصاص ووجه قتلة لا يعرفون إلى أين يسيرون! كنت بحاجة لتدخين سيجارة، فتحت نافذة السيارة، ونفثت دخان صدري. صارت حرستا ودوما ورائي، ألم ظهري والعويل والدم في رأسي، عينا الشاب الذي ينام نوم الغزلان. فجأة انتبهت إلى نآمة سمعتها، نظرت في المرآة إلى السائق الشاب، كانت مفاجأة اليوم الأخيرة؛ رأيت دموع الشاب، تنزل غزيرة، وهو صامت لا يقوى على قول شيء. عندها فقط سمعت صوت أسناني تسحل. - دمشق التي لم تعد الآن هنا (1)