قد يبدو للبعض ان رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان بالغ عندما الغى جميع زياراته وارتباطاته خارج تركيا خلال الخمسة والأربعين يوماً التي سبقت الانتخابات البلدية اليوم (29 آذار /مارس) وخصص هذه الفترة لإجراء زيارات ميدانية الى 56 محافظة ومدينة من أصل 81 محافظة في تركيا ليتزعم بنفسه الحملة الانتخابية لحزبه، بموازنة ضخمة تجاوزت 600 مليون ليرة تركية اي ما يعادل 400 مليون دولار انفقت على الحملات الانتخابية في المحافظات الكبرى فقط. اهتمام كبير لا يقل عن الاهتمام الذي يوليه اردوغان بالانتخابات البرلمانية العامة، يدعو الكثيرين إلى التساؤل عن السبب، خصوصاً أن الانتخابات البلدية او المحلية لا تعطي مؤشراً دقيقاً إلى شعبية الحزب لأن الناخب التركي غالباً ما يركز في اختياره في هذه الانتخابات على الشخص المرشح وسمعته وسيرته اكثر من تركيزه على الحزب الذي ينتمي إليه، وذلك بسبب قرب المسافة بين الناخب والمختار او رئيس البلدية والاتصال الشخصي المباشر بينهما في شؤون تخص الحياة اليومية والخدمات، وهو ما لا يكون حاضراً بالقوة نفسها في الانتخابات البرلمانية التي يركز فيها الناخب على سياسة الحزب وزعيمه حتى لو لم يكن يعرف مرشح الحزب عن دائرته، وهو ما يسمح لكثير من الأحزاب بترشيح نواب شرقيين في محافظات غربية يكونون غريبين عنها، الأمر الذي يندر حصوله في الانتخابات البلدية. انه حرص اردوغان على اثبات جدارته في زعامة الحزب وادارته وحده في اول انتخابات يخوضها وهو متفرد بزعامة الحزب وقيادته بعد غياب الرجل الثاني عبدالله غل عنه بعد توليه منصب رئيس الجمهورية، و حرص ايضاً على اثبات حفاظ الحزب على شعبيته على رغم كل الظروف الصعبة التي مر بها العام الماضي واهمها محاولة حله على يد المحكمة الدستورية العليا التي باءت بالفشل، لكنها بقيت في اذهان الجميع انذاراً مهماً من القوى العلمانية الى الحزب. ولا شك في أن حفاظ الحزب على شعبيته في الانتخابات المقبلة سيكون بمثابة استفتاء شعبي مهم على محاولة القضاء حل الحزب، وسيجدد دعم الشارع التركي لتوجهات اردوغان وحزب «العدالة والتنمية»، وسيؤيد ايضاً مسيرة تصفية العصابات المسلحة التي تمتد الى داخل الجيش ضمن ما يسمى تنظيم «ارغاناكون» الإرهابي الذي تحتاج حكومة اردوغان في مواجهته الى دعم شعبي كبير. لكن الأهم من كل تلك النقاط والأسباب جميعاً هو حرص اردوغان على عدم اعطاء الفرصة لظهور اي سيناريوات تقول بأن نجم حزبه بدأ يأفل وأنه سيعيد قصة حزب «الوطن الأم» والرئيس الراحل تورغوت اوزال الذي انفرد حزبه بالحكومة لدورتين انتخابيتين لكنه بعد ذلك فقد ثقة الشعب وتراجعت شعبيته في شكل كبير حتى اندثر وخرج من الساحة السياسية. ولا شك ان الفوز بالانتخابات البلدية والحفاظ على نسبة تمثيل قوية لا تقل عن 45 في المئة ستكون هدية مهمة لأردوغان الذي يستعد لاستقبال الرئيس الأميركي باراك اوباما في السابع من نيسان (ابريل)، اي بعد اسبوع فقط من الانتخابات، وهي الزيارة التي توليها تركيا اهتماماً كبيراً وتعوِّل على نتائجها لفتح صفحة جديدة مع الإدارة الأميركية وبدء تعاون كبير بين البلدين في ما يتعلق بقضايا القوقاز والشرق الأوسط والبلقان. واذا ما نظرنا إلى الأمر من الجانب الآخر يمكن القول إن تراجع شعبية حزب «العدالة والتنمية» في الانتخابات البلدية في شكل كبير، اي حصوله على اقل من 40 في المئة من مجموع الاصوات وفقدانه عدداً مهماً من البلديات سيتيح فرصة كبيرة لخصومه للترويج لقرب انتهاء قصة نجاحه وأفول نجمه، بل ان المعارضة قد تلجأ للضغط بقوة لإجراء انتخابات برلمانية مبكرة اذا ما حصل حزب «العدالة والتنمية» على اقل من 40 في المئة من الأصوات، بحجة ان الحزب فقد جزءاً كبيراً من شرعيته ودعم الشارع له بعد تجربة مقاضاته امام المحكمة الدستورية مما ادّى الى تراجع اصواته عن نسبة 47 في المئة التي حصل عليها في الانتخابات البرلمانية في تموز (يوليو) 2007، كما ان ذلك الاحتمال قد يفتح سجالاً حول زعامة اردوغان وتفرده بقيادة الحزب بعد غياب عبدالله غل وتحييد عدد من الاصوات القوية والمهمة التي شاركت في تأسيس الحزب بعيد الانتخابات الماضية، وهو اخطر ما قد يواجهه الحزب الذي راهن كثيرون في السابق على حدوث انشقاق فيه بين اولئك القادمين من احزاب اسلامية قديمة والصف الثاني القادم من احزاب يمينية، لذا يبدو ان على اردوغان وفريقه فعل كل شيء من أجل تحقيق نتيجة افضل على الأقل من نتائج الانتخابات البلدية الاخيرة عام 2004 والتي حصل فيها الحزب على نسبة 42 في المئة. ما يبدو مؤكداً حتى الآن من خلال استطلاعات الرأي هو أن حزب «العدالة والتنمية» يتقدم على بقية منافسيه، وبقدر كبير كما كان في السابق، وأن ترتيب الاحزاب السياسية سيبقى كما كان وأن الساحة لن تشهد دخول حزب جديد، فيما يبقى الاختلاف قائماً حول النسبة التي سيحصل عليها حزب «العدالة والتنمية» وحول اذا ما كان سيفوز ببلديات جديدة مهمة وعلى رأسها بلدية دياربكر عاصمة المحافظات ذات الغالبية الكردية في جنوب شرقي تركيا والتي كان قد فشل في كسبها في انتخابات عام 2004 بفارق بسيط لتذهب الى حزب «المجتمع الديمقراطي» ذي التوجهات الكردية والمتهم بأنه الجناح السياسي لحزب «العمال الكردستاني». فاستطلاعات الرأي تؤكد أن الاحزاب السياسية الاساسية الاربعة الممثلة في البرلمان هي التي ستتنافس في هذه الانتخابات في شكل جدي، مع ترشح البعض لحزب «السعادة الاسلامي» لإحراز تقدم بسيط بعد تجديد دماء صفوفه وانتخاب نعمان كورطولمش، خلفاً لرجائي كوطان، زعيماً للحزب الذي لا يزال رئيس الوزراء الأسبق الاسلامي نجم الدين اربكان يظهر في مهرجاناته الانتخابية طالباً تأييده ودعمه. وتتوقع استطلاعات الرأي ان يخدم هذا التغيير في الوجوه الحزب ليرفع رصيده من واحد ونصف في المئة الى 3 في المئة في الانتخابات ويحصد عدداً اكبر من البلديات الصغيرة والمتوسطة في الاناضول التركي. وفي الترتيب العام فإن استطلاعات الرأي ترجح حصول حزب «العدالة والتنمية» الحاكم على نسبة تتأرجح بين 40 و50 في المئة، يليه حزب «الشعب الجمهوري» الاتاتوركي التوجه بزعامة دنيز بايكال بنسبة تتأرجح بين 20 و26 في المئة، ويليه حزب «الحركة القومية» بنسبة 14 في المئة واخيراً حزب «المجتمع الديمقراطي» ذو التوجهات الكردية بنسبة 4 في المئة. وهذه النسب قريبة جداً مما حققته هذه الاحزاب في الانتخابات البرلمانية عام 2007 ، ليبقى عامل الحماسة الوحيد في الانتخابات محصوراً في النتيجة التي سيحصل عليها حزب «العدالة والتنمية». اما بالنسبة الى البلديات المهمة فمن المتوقع ان يحافط حزب «العدالة والتنمية» على بلديتي اسطنبول وأنقرة اكبر بلديتين في تركيا، وان يحافظ حزب «الشعب الجمهوري» على قلعته الاتاتوركية في ازمير، وأن ينتزع القوميون قلعة اضنة هذه المرة من حزب «العدالة والتنمية» إثر خطأ ارتكبه الحزب الحاكم بتأخر الإعلان عن مرشحه للبلدية بسبب صراعات داخلية على هذا المنصب واستمالة القوميين للمرشح الأساسي لحزب «العدالة والتنمية» الى صفوفهم. كما يتوقع ان تبوء مساعي اردوغان لانتزاع بلدية دياربكر من الاكراد بالفشل بعد تحول السجال هناك الى مسألة تحد وعناد، ما سمح لحزب «المجتمع الديمقراطي» ورئيس البلدية عثمان باي دمير بالقول بضرورة أن يحافظ الاكراد على قلعتهم في دياربكر كسبيل لتأكيد هويتهم الثقافية والقومية المختلفة، والترويج لقول إن فوز الحزب الحاكم ببلدية دياربكر يعني تصفية القضية الكردية تماماً. فيما سيبقى التنافس في المحافظات ذات الغالبية الكردية محصوراً بين حزب «العدالة والتنمية» وبين حزب «المجتمع الديمقراطي» فقط في ظل استمرار غياب بقية الاحزاب عن المنطقة. علماً بأن حزب «العدالة والتنمية» يراهن على الفوز ببلدية دياربكر من أجل دفع عملية التنمية في المنطقة كجزء من المخطط الشامل الذي وضعه الحزب لحل القضية الكردية ونزع سلاح حزب «العمال الكردستاني» ضمن خطة متشعبة تمتد الى تعاون مع اكراد العراق وانفراجات سياسية تتعلق بالإعتراف بالهوية الكردية من خلال انشاء قناة رسمية ناطقة بالكردية والعمل على انشاء كلّيتين للغة الكردية في جامعتي اسطنبول وأنقرة وتخصيص اموال لمشاريع تنمية كبيرة في جنوب شرقي الأناضول. والواقع أن عدداً من نواب حزب العدالة والتنمية الحاكم لن يفاجأ إن تراجعت شعبية الحزب الى نسبة 42 في المئة وخسارتهم عدداً من البلديات التي كانوا يسيطرون عليها وخصوصاً في المناطق ذات الغالبية الكردية بسبب العملية العسكرية البرية التي قام بها الجيش التركي في شمال العراق في شتاء 2008 واستمرار قصف شمال العراق، وكشف عدد من قضايا الفساد داخل الحزب اخيراً، لكن الغالبية في الحزب ترجح زيادة شعبيته في النسبة العامة مع خسارة عدد بسيط من البلديات مقابل فوز بأصوات اكبر هذه المرة في بلديات يسيطر عليها الحزب بالفعل. لكن الأمر بالنسبة الى اردوغان يبدو تحدياً مهماً وكبيراً لا يقل عن التحدي الذي واجهه في الانتخابات البرلمانية الاخيرة في تموز(يوليو) 2007 حين خاض تلك الانتخابات في جو مشحون جداً بعد سعي القوى العلمانية الى عرقلة انتخاب عبدالله غل رئيساً للبلاد ونشر بيان شديد اللهجة للجيش يهدد بالتدخل ضد الحزب الحاكم بسبب ما اسماه البيان سياساته الرجعية. ولعل هذا ما يجعل اردوغان وحزبه يطرقان جميع الابواب للحصول على الاصوات هذه المرة، فبالإضافة الى ما يتميز به الحزب على غيره من بقية الاحزاب من قدرات مالية ضخمة واستعانة بخبرات وشركات محترفة في مجال الدعاية والإعلان، وكذلك اعتماده على دراسات علمية واستطلاعات رأي مستمرة تجرى كل ثلاثة اشهر في جميع المحافظات، فإنه لجأ الى اساليب اخرى ووجهت بانتقادات كبيرة مثل تجنيد المحافظين لتوزيع المساعدات باسم الحزب الحاكم علماً أن المحافظين يفترض بهم الحياد والانتماء للدولة وليس للحكومة، وكذلك توزيع الفحم بالمجان على المواطنين المحتاجين من موازنة الحكومة قبل الانتخابات، بل وتوزيع اثاث واجهزة كهربائية على الفقراء من المواطنين والناخبين والتركيز على المناطق التي لم تصوت سابقاً للحزب، وكل ذلك من موازنة الحكومة وباستخدام امكاناتها، وهو ما فتح نقاشاً كبيراً حول اعتبار تلك المساعدات رشى انتخابية، وطالبت المعارضة بتحويل الامر الى التحقيق والقضاء. كذلك لوّح اكثر من وزير ونائب في حزب «العدالة والتنمية» اثناء الحملات الانتخابية بأن البلديات التي لن تتبع الحزب الحاكم لن تجد تمويلاً لمشاريعها، لأن موازنات البلديات تعتمد من وزارة المالية، وهو ما اعتبر ايضاً تهديداً للناخبين بمعاقبتهم في حال انتخبوا مرشحاً من المعارضة من خلال عرقلة عمل البلدية. وعلى اي حال فإن اندفاع اردوغان اعطى هذه الانتخابات حماسة غير مسبوقة لتتحول بالتالي الى منعطف مهم في مسيرة حزب «العدالة والتنمية» الحاكم وتخرج من كونها انتخابات بلدية او محلية فقط.