حضرت في أستانة عاصمة جمهورية كازاخستان آخرَ الشهر الماضي أعمال الدورة الثامنة والثلاثين لمجلس وزراء الخارجية في دول منظمة التعاون الإسلامي (منظمة المؤتمر الإسلامي سابقاً). وجاء انعقاد هذه الدورة وسط أجواء مضطربة تعيشها مناطق شتى من العالم الإسلامي، وفي خضم أحداث عاصفة تشهدها دول عربية، وهو الأمر الذي كان يقتضي أن يحظى باهتمام وزراء الخارجية. وكذلك فعلوا، فقد جاء «إعلان أستانة» الصادر عن المجلس، معبراً عن هذا الاهتمام، وراسماً المعالم لخطة عمل للتعامل مع الأوضاع المتأزمة في بعض الدول الأعضاء، ولمعالجة المشاكل المتراكمة القائمة للحيلولة دون تفاقمها وزعزعة الاستقرار في المنطقة برمتها. وقد أقرَّ مجلس وزراء دول منظمة التعاون الإسلامي بالتحديات الناشئة التي تواجه المجتمعات الإسلامية، والناجمة عن التطورات المهمة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وناشد المجلس كلَّ الأطراف المعنيين الدخول في حوار بنّاء والعمل من اجل تحقيق حلول سلمية وضمان حماية المدنيين انطلاقاً من روح ميثاق منظمة التعاون الإسلامي، ومن خلال قنوات عديدة، من بينها منظمة التعاون الإسلامي، ومن أجل تحويل هذه التحديات إلى فرصة تسمح بتحسين جودة حياة الشعوب الإسلامية من خلال تعزيز السلم والتعاون، وترسيخ سيادة القانون وحقوق الإنسان والحريات الأساس، والحكم الرشيد، والديموقراطية والمساءلة. وكان «بلاغ مكةالمكرمة» الصادر عن الدورة الاستثنائية الثالثة لمؤتمر القمة الإسلامي (ديسمبر/ كانون أول 2005) قد أعلن أن أولوية الإصلاح والتطوير تشكل اقتناعاً تُجمِع عليه الأمة حكومات وشعوباً، في إطار نابع من داخل مجتمعاتنا الإسلامية، ومتوائم مع مكتسبات الحضارة الإنسانية، ومستلهم لمبادئ الشورى والعدل والمساواة في تحقيق الحكم الرشيد، وتوسيع المشاركة السياسية، وتكريس سيادة القانون، وصيانة حقوق الإنسان، وبسط العدالة الاجتماعية والشفافية والمساءلة، ومحاربة الفساد، وبناء مؤسسات المجتمع المدني. وينسجم ما ورد في «إعلان أستانة»، عن التأكيد على العدل والمساواة والحكم الرشيد والديموقراطية والمساءلة، مع «إعلان داكار» الصادر عن الدورة الحادية عشرة لمؤتمر القمة الإسلامي، الذي جاء فيه: «إننا نولي الكثير من الأهمية لمفهومَي حقوق الإنسان والحكم الرشيد، قَصْدَ ترويجهما بصورة متواصلة في كل دولة من دولنا، باعتبارهما عاملين أصبحا لا مندوحة عنهما في سبيل تقدم البشرية وازدهارها». ويمكن القول إن المضامين التي انطوى عليها «إعلان أستانة» في شأن الإصلاح العام والشامل للأوضاع في العالم الإسلامي، تتسم بقدر كبير من الوضوح والصراحة في الحديث عن الواقع المضطرب الذي يسود مناطق متعددة من العالم العربي الإسلامي، غير أنها لم تحدد آليات العمل الضرورية لمعالجة هذا الواقع، وهو الأمر المطلوب فوراً ومن دون تأخير. وأدان «إعلان أستانة» بشدة الإرهاب بجميع أشكاله ومظاهره، وأكد على ضرورة عدم الربط بين هذه الآفة وبين أي دين أو عرق أو عقيدة أو قيم أو ثقافة أو مجتمع. وأعرب عن الدعم لكل الذين يسقطون ضحايا لهذه الهجمات الشنيعة، موضحاً أن معالجة الإرهاب معالجة فعالة لن تتسنى بالاستناد فقط إلى المنظور الأمني أو الوسائل العسكرية، بل يجب الاعتماد في مكافحة الإرهاب على توفير التعليم الملائم والظروف الاجتماعية الأفضل للمعوزين وتوفير فرص العمل للشباب، والقضاء على أسبابه الحقيقية. إن التأكيد على ضرورة تحسين جودة الحياة، وربط ذلك بتعزيز السلم والتعاون، وبترسيخ سيادة القانون وحقوق الإنسان والحريات الأساس وبالحكم الرشيد والديموقراطية والمساءلة، يعبِّر عن مرحلة من التطور تسجِّل تحولاً مهماً لافتاً للاهتمام في السياسة التي أصبحت تنهجها منظمة التعاون الإسلامي بعد القمة الإسلامية الحادية عشرة في داكار، التي تميزت باعتمادها ميثاقاً متطوراً للمنظمة، فتح أمامها آفاقاً جديدة. والحق أن تحسين جودة الحياة، وهذه صياغة ذات أبعاد واسعة ومعانٍ عميقة مرهونة بانتهاج الحكم الرشيد الذي يقوم على الديموقراطية والمساءلة، ويستند إلى سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان والحريات العامة. كذلك فإن تعزيز السلم مرتبط بهذه الشروط الموضوعية التي لا تستقر الأوضاع ولا تستقيم أمور الحياة إلا بها. وتأتي «جودة الحياة» من استتباب الأمن بمدلولاته جميعاً، واستقرار السلم الأهلي بمفاهيمه المتعددة، وإقامة القواعد الراسخة للحكم الرشيد، بكل ما ينطوي عليه من مقتضيات قانونية ودستورية وسياسية واقتصادية واجتماعية، والعمل بالديموقراطية، التي من مواصفاتها: الشفافية، والمشاركة في اتخاذ القرارات التي تتعلق بالشأن العام، والمساءلة التي تقترن بالمسؤولية، على أن يساير ذلك كله، تحديث للمنظومة التعليمية، وتطوير للعلوم والتكنولوجيا والابتكار، والاهتمام بالشباب، والإصغاء إليهم، وتفهم ظروفهم، وتلبية مطالبهم، وتوعيتهم بحقوقهم وبواجبات الوطن عليهم، وإنصاف المرأة، وإتاحة الفرص لها لأداء دورها في خدمة المجتمع والنهوض به. وكل هذه الإصلاحات هي من مقتضيات الحكم الرشيد الذي يشمل في ما يشمل، السياسة والاقتصاد والاجتماع والتربية والتعليم، وكل مجال له صلة بحياة الفرد والجماعة. وخلاصة القول، أن «إعلان أستانة» فيه الكثير من الإيجابيات التي تحتاج إلى تطبيق سريع ومتابعة مستمرة حتى يؤتي آكله ويحقق أهدافه. وأرجو أن لا يكون مآله كمآل ما سبقه من إعلانات أتى عليها حين من الدهر وهي فوق الرفوف أو وسط الخزائن. * المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة - إيسيسكو.