يكشف المشهد الإعلامي التركي إمساك النظام بكل مفاصله حتى أصغر شأن فيه. وجاءت صفقة بيع أكبر مجموعة إعلامية هي «دوغان ميديا» إلى رجل الأعمال أردوغان دميراوران، القريب من الرئيس رجب طيب أردوغان، وصاحب ثاني أكبر مجموعة إعلامية، لتثبت أدلجة الإعلام في تركيا وتأميمه. وترسّخ مشهد تأميم الإعلام مع موافقة البرلمان أخيراً على مشروع قانون يدرج قنوات البث على الإنترنت ضمن الصلاحيات الرقابية للمجلس الأعلى للإذاعة والتلفزيون، بما فيها «يوتيوب». ويلزم المجلس مقدمي الخدمات الإعلامية الذين يرغبون في تقديم خدمات البث في التلفزيون أو الراديو وخدمات البث الاختياري عبر الإنترنت فقط الحصول على ترخيص من المجلس الأعلى للإذاعة والتلفزيون. التوجه نحو تأميم الإعلام في تركيا، اعتبره ممثل الحرية الإعلامية في منظمة الأمن والتعاون في أوروبا انحرافاً عن مسار الديموقراطية ومعايير كوبنهاغن للحاق بعضوية الاتحاد الأوروبي. في المقابل، طالب 38 من الكتاب والعلماء الحائزين جائزة نوبل من تركيا وخارجها، أردوغان بإلغاء حال الطوارئ، والإفراج عن الصحافيين والمفكرين الموقوفين من دون سند قانوني أو أدلة اتهام. وتضمنت الرسالة التي نشرتها صحيفة «الغارديان» البريطانية: «نود أن نلفت انتباهكم إلى الأضرار التي لحقت بتركيا وبسمعتها وكرامة مواطنيها من خلال الاحتجاز غير القانوني والأحكام غير المشروعة». واستشهد الموقعون بالاحتجاز التعسفي للروائي أحمد ألتان، وشقيقه محمد أستاذ الاقتصاد، والصحافية نازلي إيليغاك، بتهمة التحريض على العنف ومحاولة الانقلاب على النظام. وفي سياق ترهيب الصحافة، وتقليص حضور المنابر الإعلامية المناهضة للتوجهات المحافظة، قضت محكمة تركية أخيراً بالسجن المؤبد لستة صحافيين، بجرم محاولة الانقلاب على النظام الدستوري، وعضوية جماعة «خدمة» المصنفة إرهابية. ولم يكن هذا الحكم هو الأول من نوعه، ففي 16 كانون الثاني (يناير) الماضي قضت محكمة في إسطنبول بسجن خمسة صحافيين لمشاركتهم في حملة تضامن مع صحيفة «اوزغور غونديم» المؤيدة للأكراد، والتي صادرتها الحكومة بموجب مرسوم في تشرين الأول (أكتوبر) 2016. ويشار إلى اعتقال السلطات التركية، في حزيران (يونيو) 2017، رئيس تحرير صحيفة «أيدنليك» العلمانية، على خلفية مقال نشرته في العام 2014 عن بيرات البيراق، وزير الطاقة وصهر الرئيس أردوغان، وجاء فيه أن البيرق «على صلة بعالم الجريمة». ويلاحظ أن حزب «العدالة والتنمية» منذ وصوله إلى سدة السلطة عام 2002، بدأ مبكراً التوجه نحو فرض الوصاية على صحافة المعارضة، ففي 2004 صودرت جريدة «ستار ديلي» التي يملكها منافس أردوغان السياسي كيم أوزان، وأُسندت ملكيتها إلى رجل الأعمال القريب من أردوغان إيثيم سانكاك. كما صودرت عام 2007 جريدة «صباح ديلي» وقناة «إيه تي في» وبيعت لمجموعة «تورك فاز» التي يديرها بيرات البيراق. وفي سياق تقليص حضور المنابر المناهضة للتوجهات المحافظة، فُرضت عام 2009 ضرائب باهظة، تصل قيمتها إلى نحو 25 مليون دولار على مجموعة «دوغان الإعلامية»، ما وضعها في أزمة مالية دفعتها إلى بيع جريدة «ميليت ديلي». وفي 2013 صودرت أصول مجموعة «كوكورفا» الإعلامية التي تضم جريدتي «أكشام» و «جونيس» وقناة «سكاي تورك 360». وعشية انتفاضة جيزي بارك في صيف 2013، انتهز أردوغان الفرصة لتوسيع سيطرته على الإعلام، وبخاصة التابع لحركة «خدمة» التي يقودها فتح الله غولن. وعشية انقلاب 2016 الفاشل، تصاعدت عملية التطهير الواسعة ضد الصحافة والإعلام إلى جانب خطاب التخوين الذي يتبناه أردوغان ضد معارضيه. ووصل عدد المعتقلين من الصحافيين وأصحاب الشركات الإعلامية إلى 142 شخصاً، كما أغلقت منذ تموز (يوليو) 2016 بحسب اتحاد الصحافيين الأتراك نحو 172 وسيلة إعلامية، الأمر الذي جعل 2500 صحافي عاطلين من العمل، ناهيك بعدد معتبر من العاملين والموظفين الإداريين. وعلّقت السلطات بث عشرات قنوات فضائية موالية للأكراد عبر القمر الاصطناعي «تركسات». العنف الممنهج ضد الإعلام والصحافة في تركيا لم يقتصر على عمليات الإغلاق ووقف البث، فبموجب سلطة الطوارئ رُفض تطبيق أحكام المحكمة الدستورية العليا، فعلى سبيل المثال رفضت حكومة العدالة والتنمية في كانون الثاني الماضي قرار المحكمة الإفراج عن الصحافيين محمد ألتان وشاهين ألباي المتهمَين بالضلوع في محاولة الانقلاب عام 2016، في حين اعتبرت المحكمة أن اعتقالهما انتهاك لحرية الصحافة ولحقوقهما الشخصية. وبموجب قانون الطوارئ الذي تم تمديده أخيراً للمرة السادسة على التوالي، يجري من حين إلى آخر حجب «فايسبوك» و «تويتر» و «انستغرام» و «واتس أب». ودفعت سياسة العقاب الجماعي وقمع الحريات في تركيا الاتحاد الأوروبي إلى مطالبة السلطات التركية بتقليص نطاق تدابير الطوارئ، بحيث لا تستخدم لتقويض حرية التعبير. وفي تقريرها لعام 2018، قالت مؤسسة «هيومان رايتس ووتش» إن تركيا شدّدت القيود المفروضة على وسائل الإعلام والمعارضة السياسية والمدافعين عن حقوق الإنسان عام 2017. ووصف تقرير منظمة «مراسلون بلا حدود» الصادر في نهاية العام 2017، تركيا بأنها من «أكبر 5 سجون للصحافيين المحترفين في العالم». وكشف تراجع تصنيفها في مؤشر حرية الصحافة لعام 2017، فاحتلت المرتبة 155 من بين 180 دولة. في هذا السياق العام، تبدو الصحافة في تركيا مرشحة لمزيد من التراجع تحت مسميات قانونية بموجب حال الطوارئ التي باتت تخفي وراءها من أهداف أكثر مما تكشف. ولذلك لم يكن غريباً توجه السلطة نحو بناء تحالفات إعلامية جديدة موالية، وهضم المنصات الصحافية الممانعة لتوجهاتها سواء عبر تشويه سمعة الصحافيين العاملين فيها، أو استقطاب آخرين ودمجهم في مجموعات مصالح. المشهد الصحافي التركي يشير إلى تصاعد هيمنة ما يمكن أن يُطلق عليه تأميم حتى «الصحافة المؤدلجة» التابعة للدولة، ومعها ما تبقى من صحافة أحزاب الموالاة، وصحافة مجموعات المصالح التي ترتبط بالنظام. * كاتب مصري