لا يجهل متابع أن أشد الناس عداوة للمملكة العربية السعودية هم مَن يسمون أنفسهم «المحافظين المجددين». وأهم دوافع هذا العداء الثابت، والاهتمام الدائم، وتلفيق الروايات، وتزوير التاريخ، هو موقف السعودية الصادق، والذي لم يتغير، منذ أيام مؤسسها الملك عبدالعزيز (رحمه الله) وحتى يومنا هذا من قضية فلسطين. ولكن لماذا يكون جُلُّ هذا العداء موجهاً إلى السعودية بالذات من بين جميع الدول العربية والإسلامية؟ من المرجح أن ذلك يعود إلى سببين رئيسين: الأول هو أهمية السعودية بالنسبة إلى المصالح الأميركية الوطنية الكبرى، التي تؤلم حقيقة وجودها المتعاطفين مع اليمين الإسرائيلي المتشدد أكثر من أي اعتبار آخر. والثاني أن السعودية دولة معتدلة، لا تفقد توازنها السياسي والمنطقي حتى في أحلك الظروف. فموقفها من القضية الفلسطينية، رغم ثباته، لا تكتنفه مزايدات وعنتريات كاذبة. والسعودية لم تتخذ قط مأساة فلسطين قميصَ عثمان تستمد منه شرعية وجودها، كما هو الحال في دول الانقلابات العسكرية. وحينما استمرت السعودية مستقرة آمنة ولم تتزعزع أواصر الصلة بين قيادتها ومواطنيها، وكأنها جزيرة هادئة في وسط بحار العالم العربي المتلاطمة، وفي جارتها إيران بعد اتهام رئيسها بتزوير الانتخابات، ولم تمنع وسائل الإعلام العالمية كافة، من محايدة وحتى معادية، من دخول أراضيها، لترى وتسمع بالكيفية والوسيلة التي تفضلها، حقيقة الواقع المعاش في السعودية، خابت كل آمال لوبيات العداء للسعودية، ليس في أميركا فحسب، وإنما أيضاً في فرنسا وبريطانيا، وإن كانت أقلَّ حدة في هاتين الدولتين مما تبثه وسائل الإعلام الليكودية الأميركية وكتّابها والمعلقون فيها. فما الحل؟ لا يمكن بموضوعية معقولة العودة إلى اتهام السعودية في يومنا هذا، كما حدث كثيراً في الماضي، بأنها تدعم الإرهاب، فهي التي عانت من الإرهاب في كل مناطقها. وعلى الرغم من احتمال وجود عدد محدود من المتعاطفين مع الإرهاب، فإن السعودية حققت انتصارات مشهودة وتحجيماً للإرهاب المسلح باسم الإسلام أكثر من أي دولة أخرى تعرَّضت لهذا الرعب، الذي وُلد وتربَّى باسم الإسلام وقتل من المسلمين أضعاف ما قتل منهم غيره. أما حالياً، فالسعودية متهمة بدعمها للأحزاب السياسية العربية الإسلامية التي ترفع الإسلام شعاراً للوصول إلى الحكم. وأحياناً يكون الاتهام تحديداً بدعم «جماعة الإخوان المسلمين». وهذا أمر يحتاج إلى توضيح. فالمملكة العربية السعودية هي مهد الإسلام. ونظامها السياسي يستمد شرعيته ليس من استمرار ثبات وحدتها أرضاًَ وشعباً ونقلتها الحضارية والحرص على رفع مستوى معيشة أبنائها فحسب، وإنما أيضاً من تحكيم الشريعة الإسلامية. وهي تعرف أنه لن يصدق مراقب محايد المزايدة على عروبتها أو على إسلامها. أما التحزب السياسي باسم الإسلام، فالسعودية ترفضه، ولا يمكن أن تدعم الداعين اليه. وقبل نحو سبعين عاماً، طلبت التكوينات السياسية الناشئة باسم الإسلام أو باسم العروبة، إنشاء مكاتب لها في السعودية، فقال لهم الملك المؤسس، العربي القومي المسلم الملتزم، عبدالعزيز بن عبدالرحمن: «نحن العرب ونحن المسلمون». أي بما معناه أننا لا نحتاج إلى من يؤسس مكتباً سياسياً ليعلِّمنا عروبتنا أو إسلامنا. فنحن عرب ومسلمون بالفطرة والنشأة، هذه هويتنا من دون ماكياج ولا رتوش. ولكن السعودية لن توصد أبواب مداخلها أمام لاجئ مطارد، وهذه من عادات العرب وشيمهم، سواء كانت المطاردة عن حق أو باطل. وحينما اضطهدت الأنظمة الاستعمارية الوطنيين العرب في المشرق والمغرب، لجأ المناضلون العرب إلى السعودية، وحينما اضطهدت الأنظمة العربية القومية، كما كانت تزعم، أعضاء جماعة «الإخوان المسلمين»، من مصريين وسوريين وعراقيين وسودانيين وغيرهم، لم يجدوا غير السعودية ملجأ لهم بصورة فردية ومكاناً لكسب معيشتهم. إن لجوء الكثيرين من أعضاء جماعة «الإخوان المسلمين» إلى السعودية من دون مخالفة أنظمتها بالتدخل في شؤون الآخرين من فوق أراضيها، لا يعني أن السعودية دعمت أو يوماً ستدعم أي حزب سياسي يرفع الإسلام شعاراً للوصول إلى الحكم في أي مكان من المعمورة. ألم يلجأ الآلاف من المطارَدين من عراق صدام من جنوب العراق إلى السعودية؟ وهل سألَتْهم السعودية قبل السماح لهم بدخول أراضيها عن طائفتهم؟ كل ما عرفته السعودية أنهم كانوا مطاردين لأسباب سياسية ويخشون بطش صدام وزبانيته إن بقوا في العراق. وأخلاق العرب وشيمهم تفرض إيواءهم. والله من وراء القصد. * أكاديمي سعودي