يكرر المقربون من الحكم في سورية، والناطقون باسمه على الفضائيات، القول بعدم وجود معارضة سورية يتم التحاور معها، وهو كلام محق في ظاهره، وإن أخفى دور النظام الأمني في القضاء على الحياة السياسية، وبالتالي دوره في تضاؤل المعارضة إلى محض أفراد ربما بات البعض منهم معروفاً أكثر مما تبقى من أشلاء الأحزاب المعارضة. لكن مسؤولية النظام الأمني وحده لا تكفي لتفسير الحالة، ما لم يكن هذا مشفوعاً بالعوامل الذاتية والتاريخية التي أدت بالتجربة الحزبية إلى تشظٍّ لامس الانعدام التام للفاعلية. بوسعنا ردّ تاريخ التجربة الحزبية السورية إلى ما يقارب قرن مضى، فالبعض منها نشأ قبل مرحلة الاستقلال، وقد كانت الفرصة مواتية في مرحلة الاستقلال الأولى للوصول إلى السلطة عبر التجربة الحزبية، سواء اتخذت الطريق السلمي أو سبيل الانقلاب على التجربة البرلمانية الناشئة كما فعل حزب البعث. ومن الملاحظ أن انقلاب البعث قضى نهائياً على الأحزاب التي كانت ترمز، من وجهة النظر «الثورية»، إلى الإقطاع والبرجوازية، فخلت الساحة للأحزاب الأيديولوجية سواء منها التي تحالفت مع حكم البعث في ما بعد أو التي عارضته. وقد توزعت الأحزاب الباقية أو التي نشأت لاحقاً على ثلاث زمر هي: الأحزاب القومية العربية والكردية، الأحزاب الشيوعية، وجماعة الأخوان المسلمين. لم تكن الأيديولوجيات التي اتخذت طابعاً شمولياً وحدها ما يجمع هذه الأحزاب، بل تضافر معها انعدام الديموقراطية ضمن التنظيمات ذاتها تزامناً مع شيوع الفكر «الثوري» الانقلابي الذي يسعى إلى التغيير من فوق. وانعكست البنى الأيديولوجية المتشابهة صراعاً على الأحقية. فالعروبيون مثلاً نسب كل تنظيم منهم إلى نفسه جدارة تمثيل القومية العربية مقارنة ب «أخوته الأعداء»؛ هذا الصراع أقصى عملياً الحراك الفكري المثمر لمصلحة «الأمانة» الفكرية التي يدعيها كل طرف، والتي تجلت جموداً عقائدياً ابتعد عنه الواقع باطراد. وقد استقرت البنية الهرمية المتشابهة للأحزاب على نحو كرس هيمنة القائد الفرد، وأعاق بروز كوادر جديدة شابة في وقت عانت من انحسار حضورها الشعبي. بغياب الديموقراطية داخل الأحزاب صار الانشقاق وسيلة التغيير، فحيث سُدّت السبل أمام التنوع الفكري، وتالياً أمام تداول المسؤوليات، لم يبق سوى تحول الاختلاف إلى خصومة نهائية. شهدت سورية تنظيمات عدة تحمل اسم الحزب الشيوعي مثلاً، وللتمييز بينها كان التعبير الدارج الذي لا يخلو من الدلالة هو أن يُلحق كل واحد منها باسم زعيمه فيُقال: جماعة فلان!. المفارقة أن انقسام الأحزاب وتكاثرها قابله انحسار لحضورها في المجتمع، أي أنه لم يأت نتيجة لدخول قوى جديدة إلى الحياة السياسية بل كان محصلة لترهل الموجود أصلاً وتفككه. لم يكن تأصيل التجربة الحزبية في الحياة السياسية متاحاً بسبب عوامل عدة، في طليعتها غياب التجربة الديموقراطية وغياب مفهوم الدولة، لكن هذه العوامل لا تعفي التجربة الحزبية السورية من المساءلة لجهة تقصيرها الذاتي وعدم تقديمها النموذج البديل لتجربة السلطة، بخاصة لجهة بنية الخطاب السياسي. مع ذلك سيكون من الإنصاف أن نأخذ بالحسبان طبيعة المرحلة التاريخية التي أفرزت بنى متشابهة في الخطاب والتنظيم، فالمجتمع السوري لم يشهد تحولات ملحوظة حتى مطلع تسعينات القرن الماضي، وفي هذه الأثناء كانت التجربة الحزبية قد سُحقت وعُزلت تماماً عن الحراك الاجتماعي، فضلاً عن اعتيادها الاضطراري على أساليب النضال السري التي لم تعد تتماشى مع المرحلة التاريخية الجديدة. بدءاً من التسعينات سنجد المعارضة السورية أكثر انفتاحاً على مفاهيم المجتمع المدني وقضايا حقوق الإنسان مع بقاء الممارسة السياسية دون المستوى المفاهيمي الجديد، إذ انتقلت خلافات الماضي الأيديولوجية إلى بعض الأطر الجديدة، وبدا واضحاً أن العمل السري السابق ترك آثاراً سلبية يصعب التخلص منها، ومنها عدم القدرة على التواصل مع الشريحة الشابة في المجتمع التي لم تعِ المرحلة السابقة. لكن أهم شوائب المرحلة الماضية ظهر بشخصنة العمل السياسي وغياب الديموقراطية الفعلية عن ممارسته، لذا تعرضت الأطر الجديدة إلى الانقسام أيضاً أو الانسحابات المؤثرة؛ حدث هذا في لجان إحياء المجتمع المدني مثلاً، أما منظمات حقوق الإنسان التي أسسها على الأغلب حزبيون سابقون فتعرضت إلى انقسامات متتالية أدت إلى وجود ما يقرب من عشر منظمات متنافسة. بالمحصلة تم التسليم بأن وجود المعارضة في سورية رمزي يعتمد على وجود معارضين لا على حضور التنظيمات، أضحت المعارضة يائسة من إمكاناتها ومشتتة بفعل خلافاتها، وبالتأكيد بفعل القمع. قد نقول إن الانتفاضات العربيّة الحالية كشفت عموماً تهافت الأحزاب العربية المعارضة وقلة حيلتها، أو عدم قدرتها على ملاقاة الشارع الذي تجاوزها فعلياً، ومن باب أولى أن ينطبق هذا على الأحزاب السورية التي تم القضاء عليها فعلياً منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي، وبذلك أفلحت السلطة في إفراغ الساحة من أي بديل محتمل لها. هكذا افتقدت الانتفاضة الشعبية وجود مظلة سياسية منظمة تتكامل معها، وحيث لا يمكن الانتظار طويلاً لتفرز الانتفاضة حركات سياسية جديدة. في واقع الأمر، وبحكم الضرورة، يقع جزء من مسؤولية قيادة المرحلة الانتقالية على عاتق المعارضة، ما يحتم عليها «بالضرورة أيضاً» التخلص من العيوب السابقة. لا شك في أن قسماً كبيراً من الشخصيات المعارضة ارتقى بخطابه ليلاقي مطالب الشارع في الحرية والديموقراطية، إلا أن التحدي الكبير المطروح هو في القدرة على الاشتباك الفعلي بالشارع، ونسج تحالفات وطنية واسعة، أي أن المعارضة مطالبة الآن بالسير عكس مسارها السابق والتحلي بروح المسؤولية الجادة، لأن زمن المعارضة من أجل المعارضة قد انتهى، على الأقل هذا ما يقوله إصرار الشارع على نيل مطالبه على رغم أعتى أنواع القمع. * كاتب سوري