لطالما لاحظت أن صندوق النقد الدولي، في تقرير «الفقرة الرابعة» من الاستشارات مع الدول في المنطقة، يقترح في توصياته طوال العقد الحالي على دول كثيرة، من ضمنها اليمن ومصر والأردن وإيران والمغرب، خفض الدعم الحكومي على سلع مدعومة، خصوصاً المنتجات النفطية والغذائية، كونه «يتضمن شوائب في عملية التوزيع ويمتص شريحة مهمة من موارد موازنتها العامة». وكنت أتساءل هل من الممكن تطبيق قرار كهذا في دول تنال شريحة كبيرة من سكانها الحد الأدنى للأجور، وهو ذو مستوى منخفض عالمياً، يكفي بالكاد لسد حاجاتها الغذائية والاستهلاكية الأساسية. ففي الأردن، كان الصندوق يشير إلى وجود خلل في سياسة الدعم التي تقدمها الحكومة، خصوصاً للمحروقات، إذ إن «نسبة المواطنين الفقراء الذين يستفيدون من الدعم يمثلون نحو 20 في المئة من السكان فقط، في حين تستفيد منه شريحة كبيرة ميسورة». وبالفعل عمد الأردن، الذي يستورد معظم احتياجاته النفطية، إلى رفع الدعم عن المشتقات النفطية في شباط (فبراير) 2008، في فترة تزامنت مع ارتفاع قياسي في سعر النفط العالمي حين تجاوز 143 دولاراً للبرميل الخام في تموز (يوليو) من العام ذاته، في حين لم يتجاوز الحد الأدنى للأجور في البلاد 150 ديناراً أردنياً شهرياً (210 دولارات)، ما أحدث ثقوباً في جيوب معظم المواطنين، خصوصاً مع ارتفاع التضخم المحلي في أسعار معظم السلع الاستهلاكية ليضاف إليه ارتفاع سعر الوقود. وليست هذه الحال محصورة في الأردن، بل تنطبق على معظم الدول العربية غير النفطية. والمفارقة الأخرى حصلت في مصر قبل يومين من ثورة 25 كانون الثاني (يناير) الماضي، إذ دعا رئيس بعثة صندوق النقد إليها إلى إلغاء دعم المنتجات النفطية وتوجيه جانب كبير من هذا الدعم إلى الفئات الفقيرة لتحسين مستوى معيشتها، على رغم إقراره بأن «هناك زيادة في الأسعار العالمية للحبوب والزيوت النباتية والخضار والسلع الأساسية، تنعكس سلباً على أسعار الغذاء المحلية وتحدث ارتفاعاً في معدل التضخم والبطالة وتشكل ضغوطاً وأعباء إضافية على الحكومة المصرية للإنفاق بصورة أكبر على الخدمات الاجتماعية». ونعلم جميعاً ماذا حدث بعد يومين من هذا التاريخ في مصر. فقد عمدت الحكومة الانتقالية المصرية بعد الثورة إلى رصد مبالغ إضافية للتعليم والصحّة والتدريب، وأقرّت رفع الحد الأدنى للأجور بنسبة 60 في المئة من 425 جنيهاً مصرياً شهرياً (71 دولاراً) إلى 700 جنيه (118 دولاراً). ويُشار إلى أن مسألة اعتماد المساعدات والدعم وقرار خفضها لا تنحصر فقط في الدول العربية، فكل الدول، حتى الصناعية، تطبّق دعماً على سلع ومنتجات معينة تعتقد أنها تصبّ في مصلحة مواطنيها، كالقطاع الزراعي، وهي أيضاً تخطئ بعض الأحيان في توزيعه، لكنها قد تختلف عن نظيرتها العربية في أنها تجري مراجعة لهذه الهفوات وتحاول تصحيحها. وفي هذا السياق، أفاد تقرير حكومي أميركي بأن أكثر من 89 ألف دفعة مالية (250 دولاراً لكل منها) بقيمة إجمالية 22 مليون دولار، من ضمن خطة حفز الاقتصاد الأميركي لعام 2009 التي وزعت على الأميركيين نحو 13 بليون دولار، ذهبت إلى أفراد متوفين (72 ألف شخص) أو محكومين بالسجن (17 ألفاً) بسبب أخطاء بيروقراطية! وأضاف أن نصف قيمة المدفوعات استُرجعت من قبل إدارة الضمان الاجتماعي، في حين ضاع الباقي في حسابات هؤلاء الأفراد. وتعتمد الولاياتالمتحدة منذ ستينات القرن الماضي مؤشراً غير رسمي يعرف ب «مؤشر البؤس»، استنبطه خبير اقتصادي كان مستشاراً للرئيس الأميركي ليندون جونسون، هو عبارة عن مجموع شهري لمعدلي البطالة والتضخم، إذ إن ارتفاع هذين المؤشرين معاً يشير إلى تكاليف اقتصادية واجتماعية باهظة، وفقاً لتعريف المؤشر. وسجل المؤشر في أيار (مايو) الماضي أعلى مستوى له منذ 28 سنة بلغ 12.7 نقطة، ما يشير إلى ارتفاع البطالة والتضخم في البلاد وتراجع مستوى معيشة المواطنين. وسجل المستوى الأدنى في تموز 1953 حين بلغ 2.97 نقطة، والمستوى الأعلى في حزيران 1980 حين بلغ 21.98 نقطة. ويفيد موقع «ويكيليكس» في هذا السياق بأن ارتفاع المؤشر تزامن مع رسوب رؤساء كثيرين خلال فترة تجديد ولايتهم، كجيمي كارتر الذي خسر المعركة الرئاسية لمصلحة رونالد ريغان عام 1980. حبذا لو تعتمد السلطات في الدول العربية ما يشبه هذا المؤشر، كي تتمكن من تقويم الحالة الاقتصادية لمواطنيها فتعتمد سياساتها المالية والضريبية على أساسه، فتتجنّب الاحتجاجات التي شهدتها دول في المنطقة أخيراً، خصوصاً أن معظمها يسجل معدلات بطالة مرتفعة، أبرزها بين الشباب، ومستوى تضخّم مرتفع. واللافت أخيراً قرار الدول الصناعية ال 28 الأعضاء في وكالة الطاقة الدولية، بمباركة أميركية، ضخ 60 مليون برميل نفط من الاحتياط الاستراتيجي العالمي في الأسواق، بمعدل مليوني برميل يومياً ل 30 يوماً، لتعويض تراجع الإنتاج النفطي الليبي في عطلة الصيف التي يرتفع فيها استهلاك هذا المنتج عالمياً، في ظل تعافٍ هشّ للنمو الاقتصادي العالمي، ما جعل سعر برميل النفط الخام يتراجع في الأسواق العالمية إلى ما دون 100 دولار. لا يكفي، ختاماً، أن نصِف الداء، فالأهم منه أن نصف الدواء الناجع لهذه المشاكل المزمنة، والأهم من ذلك توقيت اعتماد العلاج كي لا يحدث ردّ فعل عكسياً تكون تكاليفه الاجتماعية باهظة على الجميع.