بعد أربعة أعوام من الاختلاف والتنازع والانقسام، وعلى رغم المناشدات والضغوط والتظاهرات الشعبية، وتوقيع الكثير من الاتفاقيات (من مكة إلى القاهرة مروراً باليمن)، فإن «فتح» و «حماس» لم تفلحا، بعد، في التوصّل إلى توافق ناجز بينهما، ولو في ما يتعلق باسم الرئيس المقبل للحكومة الفلسطينية. هذا يعني أن ثمة مشروعية في التخوّف من الاتفاق الذي تم التوقيع عليه أخيراً (في القاهرة)، بين الفصيلين المعنيين، لأسباب عدة، أهمها، أن هذا الاتفاق، الذي فاجأ الجميع، لم يأتِ نتيجة قناعة الطرفين بأهمية إعادة الوحدة الى الكيان الفلسطيني، كضرورة لدرء المخاطر التي تواجه قضية فلسطين وشعبها، بقدر ما جاء نتيجة التداعيات الناجمة عن الثورات والتغيرات في البيئة السياسية العربية. أيضاً، ومنذ البداية، كان واضحاً أن «فتح» و «حماس» كانتا تتوخّيان من هذا الاتفاق التجاوب مع الضغوط الخارجية والداخلية، ولكن، فقط، في حدود إقامة نوع من شراكة بينهما على إدارة الكيان الفلسطيني، مع محافظة كل منهما على امتيازاته، ومكانته السلطوية، في الإقليم الذي يسيطر عليه، وهذا يشمل الأجهزة الأمنية، والموارد المالية، والمرجعية السياسية. وعدا هذا وذاك، فإن التوافق الحاصل بين «فتح» و «حماس» بدا بمثابة اتفاق على إدارة مرحلة انتقالية، وليس أكثر، قوامها الإعداد للانتخابات (الرئاسية والتشريعية) التالية، من دون أية ضمانات أو توافقات بينهما في شأن عدم تكرار التجربة الحاصلة بعد الانتخابات التشريعية السابقة (2006). أما لجهة التفاصيل، فقد كان من المتوقع اختلاف «فتح» و «حماس» حول شخصية رئيس الحكومة المقبلة، تماماً مثلما لن تكون ثمة مفاجأة في الاختلاف لاحقاً (حتى لو تم تشكيل الحكومة) حول شرعية الأجهزة الأمنية، أو حول إعادة هيكلتها، أو حتى على مرجعيتها. كما سيكون من المتوقع، أيضاً، نشوء خلافات أخرى حول الجباية، والموارد المالية الخاصة، المشروعة وغير المشروعة. فضلاً عن ذلك، فإن الفلسطينيين سيجدون أنفسهم في معمعة خلافات عدة أخرى من حول شرعية القيادة الفلسطينية المشكّلة لإدارة المرحلة الانتقالية، وحول تشكيل لجنة الانتخابات المركزية، وتشكيل اللجنة القضائية التي ستراقب نتائج الانتخابات المقبلة وتحسمها، ناهيك عن الاختلاف في شأن القضايا السياسية. لماذا كل هذه التوقعات؟ هذه التوقعات ناجمة عن أن الحركتين المذكورتين لا تتعاملان مع مسألة إنهاء الانقسام من واقع مسؤوليات كل منهما، باعتبارها حركة تحرر وطني، بقدر ما تتعاملان مع ذلك من واقع إصرارهما على المحافظة على موقعيهما المهيمنين كسلطتين، كل في حيّزها الجغرافي. اما الناحية الثانية التي تعزّز هذه التوقعات، فناجمة عن أن هاتين الحركتين لا تعتمدان في مواردهما على الشعب، بقدر اعتمادهما على الموارد الآتية من الدعم الخارجي، مع الأخذ في الاعتبار التوظيفات والمداخلات، والارتباطات السياسية الخارجية، الدولية والإقليمية. ويمكن أن نضيف إلى ما تقدم حيازة هذين الطرفين موارد مالية وقوى أمنية، تمكنهما من الاستمرار، في معزل عن دوام الاتفاق أو عدمه، لا سيما في واقع ضعفت فيه المشاركة الشعبية، وتهمّشت فيه المؤسسات والأطر الشرعية والتمثيلية، ويفتقر الى منظومة العلاقات والسلوكيات الديموقراطية. وإذا أمعنا النظر في القضايا الخلافية، فسنجد ببساطة أنها خلافات لا علاقة لها بالمصالح العليا للشعب الفلسطيني، ولا تمتّ بصلة الى أية جهود تبتغي إعادة بناء نظامه السياسي، بما في ذلك إعادة بناء حركته الوطنية. وفي هذا الإطار، فمن غير المفهوم حقاً إصرار الرئيس محمود عباس، وحركته «فتح»، على اعتبار سلام فياض مرشحاً وحيداً لرئاسة الحكومة المقبلة (مع تشديدنا على أهليته لذلك)، كما من غير المقبول معارضة حركة «حماس» المطلقة لهذا الترشيح. وإذا كان من حق الرئيس تكليف الشخصية التي يريد، فمن حق شركائه الآخرين قبول ذلك أو رفضه. القصد أن الزمن الفلسطيني لن يتوقف عند فياض، ولا عند عباس ومشعل، كما انه لم يتوقف عند من سبقهما من القادة (ومن بينهم الزعيم الراحل ياسر عرفات)، ولا عند من يأتي بعدهما أيضاً. فضلا عن ذلك يجب ان تعي حركة «فتح» أنها لم تعد حقاً تمتلك احتكار القرار، ولا حق التصرف وحدها بتقرير مستقبل الشعب الفلسطيني، فقد باتت ثمة حركة اخرى تشاركها، او تنازعها ذلك، الأمر الذي يبدو ان قيادة «فتح» لم تهضمه تماماً بعد. نعم من حق أبو مازن، في ظروف ضعف الكيان الفلسطيني، واعتماده المطلق على الخارج، في المجالين السياسي والمالي، (حيث ثمة 180 ألف موظف في السلطة)، البحث عن شخصية لا تستفزّ الدول الراعية لعملية السلام، ولا تغضب الدول المانحة. مع ذلك، فإن هذه الوضعية لا تبيح له التمترس عند شخصية معينة، مهما كانت. فثمة شخصيات أخرى، غير سلام فياض، تتمتع بهذه المواصفات أيضاً، وتلقى قبولاً من حركة «حماس»، في آن معاً. كذلك يحق لحركة «حماس»، بوصفها تمثل الكتلة الأكبر في المجلس التشريعي، أن تسمي رئيس الحكومة، لكن ما يجب أن تدركه هي أيضاً، أن هذه المكانة لا تبيح لها اخذ الوضع الفلسطيني كما تريد، فضلاً عن أن هذه المكانة، كما اثبتت التجربة، لا تفيد حتى في إقلاع الحكومة، ولا في تأمين مقومات استمرارها، ولا في رفع الحصار عن قطاع غزة، والمضي بمخططات إعماره. الآن، أمام الفلسطينيين احتمالات عدة، فإما المضي باتفاق المصالحة، وتنفيذ متطلبات المرحلة الانتقالية، ما يفترض، بداية، الإقلاع عن تقاليد التخاطب أو الحوار، عبر الفضائيات، أو عبر قنوات ديبلوماسية وكيلة، وتعوّد الجلوس إلى طاولة حوار مشتركة، لإيجاد حلول وسط لنقاط الاختلاف، إذ من المعيب، والمؤسف حقاً، أن يتواجد كل من الرئيس الفلسطيني محمود عباس، ورئيس حركة «حماس» خالد مشعل، في مكان ما (كما حصل قبل أيام في أنقرة)، ولا يجلسان سوياً للتحاور وتبادل الرأي في الهموم المشتركة. وإما أن الأمر بات يتطلب دعوة لجنة القيادة الفلسطينية (التي تم التوافق في اجتماع القاهرة على كونها قيادة للمرحلة الانتقالية، وفق الورقة المصرية) للاجتماع، لإمعان البحث في كيفية عبور المرحلة الانتقالية، والتداول في الأسماء الممكنة لترؤس الحكومة. نعم لقد حان وقت الحسم، ووقت المبادرة إلى الأفعال، لا سيما ان أوضاع الفلسطينيين باتت غاية في الرثاثة، على مختلف الصعد، إن على الصعيد الداخلي، أو على صعيد مواجهة سياسات إسرائيل، فيما أولو الأمر لا يأبهون تماماً لهذه الأوضاع، ولا يعدّون العدّة لتجاوزها. فمن الجلي أن الفلسطينيين لا يستطيعون، وأوضاعهم على هذه الدرجة من الاختلاف والانقسام والتدهور، خوض معركة جلب الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية (ما يسمى استحقاق ايلول/سبتمبر)، ولا مواجهة سياسات إسرائيل المتعلقة باستمرار الاحتلال، والأنشطة الاستيطانية، وتهويد القدس، وحصار غزة. إزاء ذلك، فإن القيادات المعنية، ولا سيما في «فتح» و «حماس»، مطالبة بحسم أمرها، فإما أن تتوافق على إيجاد حلول لهذا الاستعصاء المزمن، عبر الحوار المباشر، الثنائي أو الجماعي، أو أن تذهب نحو تنظيم استفتاء في شأن كيفية تأمين قطوع المرحلة الانتقالية، بما في ذلك الاستفتاء على اسم رئيس الحكومة، وتعيين موعد الانتخابات وتشكيل اللجان المتعلقة بها. وفوق كل ما تقدم، وبعد كل ما حصل، فإن الفلسطينيين بحاجة أصلاً إلى انتخابات جديدة، رئاسية وتشريعية، لأن الانتخابات وحدها بإمكانها تحديد موازين القوى عندهم، وتوضيح طبيعة توجهاتهم السياسية. وفضلاً عن هذا وذاك، فإن انتخابات كهذه ربما هي التي تمهد لهم الطريق لإعادة بناء نظامهم السياسي، وحركتهم الوطنية، على قواعد مؤسسية وديموقراطية وتمثيلية. لذا وبدلاً من اضاعة الوقت، وتكبير الخلافات، وتراشق الاتهامات، من الأفضل الإعداد لهذا الاستحقاق (الانتخابي)، في أقرب وقت، والتعامل معه بمسؤولية وطنية. * كاتب فلسطيني