لا جديد في ملفّ المصالحة، فالطرفان الرئيسان المختلفان، والمهيمنان على الوضع الفلسطيني عموماً وعلى السلطة خصوصاً («فتح» و «حماس»)، ما زالا عند مواقفهما الرئيسة بشأن كل الملَفّات (تشكيل الحكومة إعادة بناء الأجهزة الأمنية إجراءات بناء الثقة مواعيد الانتخابات وشكلها إعادة هيكلة المنظمة). نعم فلقد باتت للفلسطينيين أيضاً ملفاتهم التي يختلفون وينقسمون بشأنها، لكأنّ الصراع بين فصائلهم الحاكمة يدور على سلطة ناجزة، على المجتمع والموارد والمجال الإقليمي والسيادة، لا على مجرّد سلطة تحت الاحتلال والحصار والسيطرة، سواء في الضفّة أو في غزة، ما يذكّر ب «ملفات» التفاوض المتشعّبة والمعقّدة التي ضيّعت فيها إسرائيل مسارات عملية التسوية مع الفلسطينيين (الوضع الأمني وإجراءات الثقة ومستوى السيادة) طوال العقدين الماضيين! هكذا توافق المتحاورون في القاهرة أخيراً على عقد اجتماع للمجلس التشريعي (المنتخب منذ خمس سنوات!)، وتشكيل حكومة جديدة، وصوغ لجنة للإعداد للانتخابات، كما تمّ عقد اجتماع للجنة القيادية، التي تجمع كل قياديي الفصائل، كان جرى التوافق بشأنها قبل ستة أعوام (إعلان القاهرة 2005)! وينبغي ألا ننسى هنا أن قيادات «فتح» و «حماس» توافقت أيضاً على وضع حدّ لسياسات التنكيل التي تنتهجها السلطة التابعة لكل منهما (في الضفة وغزة) إزاء أنصار الطرف الآخر، وضمنها ما يتعلّق بمنح الجوازات أو منعها أو السماح بالسفر من عدمه، وكذا وقف سياسة التضييق على الحريات والإفراج عن المعتقلين لدى سلطتيهما، علماً أن هذه القيادات كانت دأبت على التصريح بعدم وجود معتقلين سياسيين لديها. حسناً، كل ذلك جيّد وايجابي لكنه لا يوحي بتزحزح أيّ من الطرفين المعنيين («فتح» و «حماس»)، المهيمنين على الوضع الفلسطيني عموماً والسلطتين في الضفة وغزة على وجه الخصوص، عن سياساتهما التي أدّت إلى الخلاف والخصام والاقتتال والانقسام. ماذا يعني ذلك؟ هذا يعني أن عملية المصالحة الجارية تنطوي على مجرد مصافحات وحوارات و «تبويس لحى»، وعلى توافقات بشأن إدارة الانقسام، بدلاً من الإقدام على مراجعة نقدية مسؤولة لتجربة الانقسام الكارثية، لضمان عدم تكرارها، وأيضاً لضمان عدم التضحية مجدّداً بمعاناة الفلسطينيين وتضحياتهم. وفي الواقع، فإن ما يغذّي الانقسام، وقد يشرعنه أيضاً، ليس مجرد الخلاف السياسي على هذه القضية أو تلك، فلطالما كانت هذه الخلافات والاجتهادات موجودة وهذا أمر طبيعي وربما ضروري، وإنما بالتحديد الواقع المتمثّل بتحوّل الحركة الوطنية الفلسطينية (ولا سيما فصيلاها الرئيسان) إلى سلطة، كل في مجاله الإقليمي («فتح» في الضفة و «حماس» في غزة)، ما يُخشى معه القول إن هذا الانقسام باتت له، على مرّ الزمن، بناه ومفاهيمه وآلياته ودينامياته، التي تساهم في حراسته وإعادة إنتاجه، وحتى في جعله واقعاً عادياً قد تصعب العودة عنه. ثمة دليل على ذلك يتمثّل باقتراب «حماس» من «فتح» من الناحية السياسية، بعد تبني قادتها خيار إقامة دولة فلسطينية في الضفّة والقطاع، وتثبيتها هدنة أو تهدئة مع إسرائيل، والتحوّل نحو انتهاج المقاومة الشعبية (وفق تصريحات قائدها خالد مشعل)، من دون أن تتم ترجمة ذلك بخطوات عملية على الأرض. هذا يؤكّد أن الوظائف الأمنية والسياسية، والمكانة السلطوية، التي باتت للحركتين المذكورتين، هي بالضبط أكثر ما يعوق تطوّر الكيان السياسي الناشئ في الضفّة والقطاع، والتي تكرّس واقع التسلّط والفساد فيهما، وبالتالي واقع الاختلاف والانقسام، وهي أيضاً التي تقف كعقبة كأداء أمام نهوض الحالة الشعبية الفلسطينية في وجه الاحتلال (بحيث بات يعرف انه ارخص احتلال في التاريخ!)، والتي جوّفت حركة التحرر الوطني الفلسطيني وأفقدتها معناها. وإذا لم يكن الأمر كذلك، فما معنى كل هذا الاختلاف إذاً على اسم رئيس حكومة، أو على أسماء أعضائها، علماً أن هذه الحكومة تحت الاحتلال؟ ثم ما معنى كل هذا الحرص على وجود عشرات الألوف من المنتسبين الى الأجهزة الأمنية في الضفّة والقطاع، ومن جانب السلطتين، مع كل ما نعرفه عن قلّة مواردهما واعتمادهما على الخارج، ومع معرفتنا بأن الفلسطينيين أحوج ما يكونون الى توظيف الموارد المالية والبشرية في بناء المجتمع والبنى التحتيّة، ولا سيما في مجال التعليم والصحّة والسكن والتوظيف ورفع مستوى المعيشة؟ من كل ما تقدم، يتّضح أن المصالحة الحقيقية تتطلّب من الطرفين المعنيين («فتح» و «حماس») الإقرار معاً بمسؤوليتهما المشتركة عن كل ما جرى، وبمسؤوليتهما أيضاً عن تحرير الوضع الفلسطيني وإخراجه من حال الجمود والعطب التي تعشّش فيه. وهذه المصالحة تتطلّب أساساً استعادة الحركة الوطنية الفلسطينية لطابعها كحركة تحرّر وطني، لشعب يريد التخلّص من الاحتلال والهيمنة والعنصرية الإسرائيلية، على رغم إمكان قيامها في الوقت ذاته بمهمات إدارة مجتمعية. وهذه المصالحة تتطلّب، أيضاً، إعطاء أولوية لوحدة الشعب، الهوياتية والكيانية، وهي وحدة لا يمكن أن تصمد وأن تتصلّب إلا على أساس الاعتراف بواقع التعدّدية والتنوّع عند الفلسطينيين، والإقرار بتعذّر استفراد أي طرف بالقيادة أو بالسلطة. وبديهي، فإن هذا يتطلب تكريس العلاقات المؤسّسية والديموقراطية والتمثيليّة في المجتمع الفلسطيني وفي إطار حركته السياسية، والاحتكام اليه عبر صناديق الاستفتاء والانتخاب، لأن هذا الوضع هو وحده الذي من شأنه اغناء حركة التحرر الفلسطيني وتصليب عودها في كفاحها من أجل تحقيق أهدافها الوطنية، وهو وحده الذي يمكّن الفلسطينيين من صدّ أو تفويت محاولات التغييب والإزاحة التي تنتهجها إسرائيل ضدهم، في سعيها لتهميش وجودهم كشعب ومصادرة حقوقهم. الآن ربما ثمة من يعتقد أن «فتح» و «حماس» ما كانتا تذهبان حتّى إلى هذه الدرجة من الحوار والمصالحة لولا تغيّر البيئة السياسية العربية، ولولا رياح الثورات الشعبية العربية، وهذا صحيح. كما ثمة من يعتقد بأن اضطراب الأوضاع السياسية العربية هو بالذات ما يكبح الطرفين عن الذهاب في المصالحة إلى نهاياتها، بانتظار ما ستسفر عنه في المقبل من الأيام، وهذا صحيح أيضاً، ما يفسّر واقع أن نتائج الاجتماعات التي عقدت لم تكن على قدر المأمول أو المطلوب. وعلى الأرجح، فإن الخريطة السياسية الفلسطينية ستشهد بدورها تغيرات كبيرة مع التحولات السياسية العربية، ما يفترض من الفلسطينيين تأهيل ذاتهم وأحوالهم لاستقبالها، بدل انتظارها. مع ذلك، ينبغي أن يدرك كل المعنيين أن الوضع الفلسطيني بات منذ زمن في حالة عطب مقيم، لأسباب ذاتية، ومن ضمنها الانقسام والتحوّل إلى سلطة، وأن التخلّص من هذه الحالة يتطلّب إنهاء الانقسام، واستعادة الحركة الوطنية لطابعها كحركة تحرر وطني، وإعادة بنائها على أسس وطنية، مؤسّسية وديموقراطية وتمثيلية. هذا كان يصحّ قبل الثورات الشعبية العربية، ولكنه بات أكثر إلحاحاً معها وبعدها. واضح أن مرحلة كاملة من التجربة الفلسطينية انتهت، بما لها وما عليها، وثمة مرحلة جديدة تشقّ طريقها، وإن بصعوبة وتعقيد بالغين، ويتوقف استمرار ما تفعله او ما لا تفعله القوى الوطنية الفلسطينية في هذه المرحلة على ذلك. * كاتب فلسطيني