تعيش سورية انتفاضة شعبية تفتح على احتمالات عدة، ولكنها منذ ما بعد بدايتها بقرابة الأسبوعين كانت قد أدت الى تغييرات عدة. صحيح أن التغيير المنشود من الغالبية لم يحصل بعد، فلا النظام تغير، ولا غيّر من نفسه كما وعد، ولكن الناس أنفسهم تغيروا بعدما أصبحوا يعتقدون بأن رأيهم مؤثر. وحدهم الفلسطينيون في سورية كانوا حتى ما قبل 6 حزيران (يونيو)، لا يشعرون بأن التغيير يطاولهم، كانت فكرة الحياد التي تسيطر عليهم، نتيجة خشيتهم من تكرار تجربة التورط في أزمات الدول التي يعيشون في كنفها، تجعلهم مترددين من الاستفادة من الحالة الجديدة لإجراء تعديل على علاقتهم بالقوى السياسية الفلسطينية التي تستمد قوتها من النظام السوري وتمارس وصايتها عليهم. لكن قناعتهم أخيراً بأن الأخير دفع أبناءهم، عبر بعض القوى، ومن خلال متمولين سياسيين، إلى الجولان، مصحوباً بالسكوت عن دخول الجيش الإسرائيلي الأراضي السورية بضع مئات من الأمتار لحفر نفق، ووقوفه موقف المتفرج على الشباب وهم يتساقطون برصاص الاحتلال، أجج غضبهم ودفعهم دفعاً للانتفاض على القوى الفلسطينية التابعة له. الفرق بين الخروج لمقارعة الاحتلال بالحجارة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، حيث لا توجد دولة وطنية معنية بمواجهته، وبين أن تَحمل جموع شابة هذه المسؤولية على عاتقها في بلد «التوازن الاستراتيجي» و «الممانعة» لم يشغل بال الدولة السورية وملحقاتها، لكنه كان حاضراً بقوة لدى الجمهور المتفاجئ بغياب الجيش والأمن السوريين. وفي يوم التشييع، 6 حزيران، هتفت الجموع تتساءل عن غياب الجيشين السوري والفلسطيني. ولكنها بشكل رئيسي صبت جام غضبها على فصائل دمشق التي، وفق رأي المتظاهرين، لم تكتف بالتقصير في حماية الشباب المندفع بل سهلت لهم مغامرتهم. ولتزيد الأخيرة من غضبة الناس أطلقت النار عليهم في سابقة لم تشهدها تظاهرات اليرموك، مهما قست على الحركة السياسية الفلسطينية، وهو من اعتاد هجاء القوى والقادة، وطردهم من ساحاته العامة وخصوصاً مقابر الشهداء. بعد انتفاضة اليرموك، وما رافقها من ردود فعل شعبية بعدد من المخيمات في سورية، خرجت فصائل التحالف الثمانية ببيان هجومي اتهمت فيه رام الله بالمسؤولية عن الأحداث، وربطت بين ما حصل مع «القيادة العامة» بالهجمة على سورية. عنى هذا الكلام الاستقواء بالشقيقة الكبرى على الشعب الفلسطيني، ولكنهم من حيث لم يريدوا (أو لعلهم أرادوا) ربطوا بين سلوكهم السياسي والأمني وما يحصل في الواقع السوري. الأمر الذي كرس في ذهن عامة الفلسطينيين أنه لا يمكن الفصل بين سلوك هذه القوى والنظام السوري، محملين الأخير المسؤولية عما حصل لهم. في يوم تشييع «الشهداء المظلومين»، إن أردنا استخدام لغة شيعية تصف بدقة هؤلاء الشهداء، انتفض الشباب، الشريحة العمرية التي يتم استرخاصها، على الفصائل وما تمثله من انحطاط سياسي، محملينها المسؤولية الكاملة. بعدها تلقى هؤلاء الشباب سيلاً من الاتهامات الحاقدة، فأحالهم الخطاب الفصائلي ل «مدمنين» و «مندسين»، بل لم يتورع عن وصمهم بأنهم «موساد». هكذا، وبتماثل مع خطاب النظام العربي، انتقل الخطاب الفصائلي من تقديس الشعب إلى تحقيره. أهمل محتكرو الحياة السياسية الفلسطينية حقيقة أن هؤلاء الشباب أنفسهم كانوا أبطال المواجهة مع قوات الاحتلال في ذكرى النكبة والنكسة على التوالي، ولنا أن نتخيل الإعلام الصهيوني وهو يستشهد باتهاماتهم لوصف «أبطال العودة». تعيش القوى الفلسطينية في الماضي، تتمسك به لأن فيه مصلحتها، وتقاوم من دون كلل حركة التقدم، في الوقت الذي يطمح الشباب الفلسطيني باللحاق بنظرائه في المنطقة. وهو ما يفسر القطيعة بين الطرفين التي سمحت للأول بالتعامل باستهتار مع دم الطرف الثاني، وللأخير الانتفاض على شروط علاقة لم يعد راضياً عنها. وهي المعادلة التي تم تغيّبها في كل البيانات التي صدرت عن حركة سياسية شاخت، ففقدت القدرة على التفكير، بعد أن فقدت الرغبة بإشغال عقلها المتكلس. * كاتب فلسطيني