توتر متصاعد، قلق، ضغط ودروس تدعيمية مكثفة، هي حال غالبية تلامذة المدارس الرسمية الجزائرية، بعد موجة الإضرابات التي عمت البلاد أشهراً عدة، مخلّفة ورائها أزمات نفسية أهتدى خلالها الأهل والتربويون إلى تنظيم جلسات علاجية قد تكون «آخر الكي» لمعضلة استدراك الدروس الضائعة. إن كانت الدروس التدعيمية أو الخصوصية «موضة « لدى تلاميذ خلال السنوات الأخيرة، فلا حديث بينهم أخيراً سوى عن ضغط الاحتجاجات التي هزّت قطاع التعليم في الجزائر، فدفع بهم إلى عقد جلسات مراجعة جماعية، وحتى جلسات علاجية للتخلّص من ارتدادات عزوف أساتذة عن إعطاء دروس. تقول المرشّحة لامتحان شهادة الثانوية العامة (الفرع العلمي) س. شيماء (17 سنة) أنها شرعت في تلقي دروس تدعيمية (خصوصية) بداية الموسم في المواد الرئيسة لضمان التحصيل الجيد يوم الامتحان مع المداومة في الصفوف، غير أن النظام الذي وضعته كسرته قوة إضراب الأساتذة، فحصل خلل في التلقي ترجمته ضغوط لاستدراك النقص، وخوف من عدم التمكّن من التحضير الجيد للامتحان النهائي. وقد انعكست حالة شيماء على أسرتها التي جهدت في المساعدة للتخفيف عنها، وأبدت استياءها من لجوء الأساتذة إلى الإضراب للضغط على وزارة التربية، إذ أن الضحية غالباً هم التلامذة الذين يرصدون موازنة معتبرة للدروس الخصوصية قد تبلغ قيمتها راتب شهر. وتسبب الإضراب على مدى شهر إلى اضطرابات كبيرة في المؤسسات التعليمية، نظراً للتأخر في التحصيل، وإنهاء المنهاج قبيل أقل من ثلاثة أشهر من الامتحانات المصيرية، لا سيما لتلامذة الشهادة الثانوية. وكانت النقابات أوقفت إضرابها الذي بدأته منذ كانون الثاني (يناير) الماضي، بعد حصولها على ضمانات من رئاسة الجمهورية بالاستجابة لمطالبها، وأعيد بموجبه إدماج الآلاف من الأساتذة الذين فصلتهم الحكومة بسبب الاحتجاج. وألقت تبعات الإضرابات بظلالها على عمل الاختصاصيين النفسانيين في الطب المدرسي، فأضحى نشاطهم مكثفاً لمساعدة التلامذة «المتوترين» ممن يتأهبون للامتحان النهائي على تجاوز الضغوط النفسية. وتوضح الاختصاصية زهيدة حوبي أن مخاوف التلامذة تركزت حول ضياع الدروس، خصوصاً ممن يتابعون صفوف الشهادات بمختلف مراحلها، لذا «دورنا نحن الاختصاصيين إدخال الطمأنينة إلى قلوبهم ما يحسّن درجة استيعابهم والقدرة على المراجعة تحضيراً للامتحانات». وتركّز على أهمية إقناع التلامذة استغلال أيام الإضرابات للمراجعة، في محاولة لتبديد مخاوفهم من انتصار عامل الزمن على جهودهم في النجاح. وعلى رغم أن جهود الجميع تنصب على حل استدراك الدروس، يرى الاختصاصي في علم الاجتماع ناصر جابي أن الجانب التربوي صعب الاستدراك، لأن عامل الاستيعاب عقّد أمور التلاميذ وضاعف من الأزمات النفسية، لاسيما لدى المرشحين للامتحانات. وحمّل من خلال «الحياة» نقابات المعلمين مسؤولية عدم مراعاة نتائج أضراباتهم على التلاميذ، والتي كانت وسيلة لإكراه الوزارة على التفاوض ما أجج التوتر ووضع التلامذة تحت ضغوط متواصلة أثّرت على سلوكياتهم. كما انتقد عدم تدخّل الوزارة والحكومة لمعالجة مشكلة الإضراب، عندما انطلق في محافظات قبل أن يعم ولايات البلاد. وترى المفتشة التربوية الخبيرة في التقويم التربوي فاطمة الزهراء فاسي أن «إصلاح» ما أفسده المضربون هو الأهم، وأوضحت ل «الحياة» أن «للإضرابات تأثيراً على نفسية التلاميذ، خصوصاً بالنسبة للذين هم خارج المؤسسات التعليمية، فيرون أساتذتهم في الشارع يتلفظون بعبارات غير تربوية وعنيفة. وكان فعندما يستأنفون الدراسة يحتاجون إلى متابعة نفسية حتى يعاودون التأقلم مع المنطق «البيداغوجي» وينسون ما رأوه في الشارع من سلوكيات منافية، لأن المشكلة تكمن في أن الأستاذ نفسه، الذي كان يشتم في خارج أسوار المدرسة يعلمهم قيماً تربوية متناقضة قد تبقى لصيقة في ذهنهم إلى الأبد، عبر عبارات منافية للقيم الوطنية والتربوية هدفها ضرب المنظومة في الصميم. وانتقدت فاسي هذه النقابات المتمرسة خلف مطالب بعضها تعجيزي يتعلق بتحسين القدرة الشرائية، على رغم أن ارتفاع الأسعار معضلة عالمية. وتعتبر أن لا علاقة للتحركات الاحتجاجية والمطالب برفع مستوى التعليم، وإنما تنحصر في الأجور التي لا يمكن زيادتها حالياً، وعلى الأساتذة أن يتفهموا الواقع ويتأقلموا مع الأزمة المالية التي تعيشها الجزائر منذ تراجع عائدات النفط منذ عام 2004 بسبب هبوط الأسعار، ما أثر على القدرة الشرائية لفئات المجتمع، ويرجّح أن تستمر الأزمة أعواماً مقبلة، مع احتمال رفع الدعم الحكومي عن سلع أساسية. وشرحت فاسي، خطة وزارة التربية لاستدراك الحصص الضائعة وتعويض تأخير مقداره 51 ساعة فقط، موضحة أن الأمر يقتصر على محافظتين فقط، بعدما عوّض الأساتذة الدروس في باقي المحافظات. وكان على المضربين أن يعوا أن تأثير خيارهم ليس تعليمياً فقط وإنما نفسياً، لأن التلميذ تقمّص في الشارع على مدى ثلاثة أشهر سلوكيات غير مجتمعية وغير أخلاقية. فيما تجري الوزارة تحقيقاً لمعرفة من صنّفوا ب «المشوشين» و «المندسين» في قطاع التربية من أجل المنصب والراتب. وفضلاً عن استدراك الدروس الضائعة تحضيراً لامتحانات نهاية السنة لا تقل جبهة العمل الأخرى أهمية، لأنها ترتكز على إعادة بناء نفسية التلميذ من خلال تجنيد مستشاري التوجيه المدرسي والنفسانيين التربويين لعقد جلسات «علاج ومساعدة وتوجيه» كل يوم ثلثاء لتجاوز مخلّفات الإضراب، فيما تنذر الأيام بتحرّك جديد يطالب أبطاله بتحديد عتبة الدروس في الشهادة الثانوية.