قد لا يُحسب النموذج التركي في الحكم الراهن، والسلطة التي كرّست نهجاً جديداً، عماده هذا التوجه الجديد للمجموعة الحاكمة، المعبّرة عن رأسمالية البرجوازية القومية التركية؛ كونه «إسلامياً»، بقدر ما يقترح هو ذاته، كونه نتاج وضع اجتماعي/ طبقي، وسياسي/ ديموقراطي ينتمي إلى عالم الحداثة السياسية والمجتمعية، فالنظام السياسي القائم في تركيا اليوم، وهو يعلن طلاقه البائن مع مركز الانقلابات العسكرية وفترتها الذهبية، وما حملته من هيمنة عسكرية وبوليسية عميقة، هذا النظام ليس وليد الصدفة، بل هو نتاج تحولات اجتماعية وطبقية قرّت واستقرّت داخل المجتمع التركي، منذ آلت السلطة السياسية والمجتمعية على نفسها أن تتحول إلى سلطة فعلية، بفعل المآلات الديموقراطية والتحولات المجتمعية المساندة، ومنذ آلت البرجوازية التركية كرأسمالية دولة، وانطلاقاً من مصالحها القومية الخاصة على نفسها، أن تتحول هي الأخرى إلى قائدة لذاك التحول السلطوي، بدل أن تُقاد إليه عبر قوى أخرى. لم يكن «حزب العدالة والتنمية» منذ صعوده إلى السلطة عام 2003، ليغرق نفسه في أيديولوجيا تديّن إسلاموي، وهو الذي لم يعتمدها في الأصل في شكل مطلق كأيديولوجية صعود إلى السلطة، وكمسار انتهازي قلباً وقالباً، على ما يفعل إسلامويونا. فلو كان حزب أردوغان – غل، قد اعتمد شعارات تقليدية من قبيل «الإسلام هو الحل»، لما رأى من ثمار السلطة ما استطاع قطفه حتى الآن، ولما استمر وتواصل كحزب وسطي معتدل نسبياً، لم يقترب في شكل كاف من معالجات سياسية للمسألة الكردية، وهو الأكثر تمثيلاً لبرجوازية الرأسمالية التركية القومية، التي عرفت كيف توظف أو تستثمر جهودها وجهود آخرين، من طبقات اجتماعية حليفة، لمواجهة مصالح المهيمنين على المؤسسة العسكرية وقوى طبقية ارتبطت بها في الداخل، وأقامت علاقات تجارية واقتصادية مع قوى الهيمنة الدولية في الخارج. لقد أثبت النموذج التركي لفترة ما بعد العسكر، قدرته على الانتقال بتركيا «الرجل المريض» اقتصادياً، والمحكومة بقبضة العسكر وحكوماتهم السياسية الأكثر تبعية وموالاة لسياسة الجنرالات، إلى كونها الدولة الإقليمية الحديثة مدنياً وسياسياً، التي وازنت بين مصالحها ومصالح قوى الهيمنة الغربية، فلم تنزلق إلى مواقع تبعية شبه مطلقة أو عمياء، وعلى كل الصعد السياسية والاقتصادية أو العسكرية، بل حافظت على مسافة كافية بين واجباتها ضمن تحالفها الأطلسي، وحقوقها في استخدام سيادتها القومية في مصلحة شعبها ودولته كدولة ديموقراطية، وقفت موقفاً رافضاً استخدام الولاياتالمتحدة وتحالفها الأطلسي قواعدهم العسكرية في أراضيها للمشاركة في احتلال العراق. ليست عثمانية جديدة، ولا هم العثمانيون الجدد، إنها تركيا الحديثة التي تقارب عصرها بغنى متزايد في تنوعها الحضاري، وبالمزيد من تمتين وحدة مكوناتها المتعددة، والتقدم ولكن ببطء نحو الاعتراف بالحقوق القومية والطبقية لكل تلك المكونات، ومن ضمنها المكون الكردي؛ فكان كل ذلك وإن كان لم يزل ناقصاً، كفيلاً بإحداث تلك النقلة التي لا يمكن مضاهاتها بأي نقلة أخرى، في زمن قصير كزماننا هذا، فقد اكتشفت تركيا الحديثة دروب حداثتها الخاصة وأوغلت فيها، واستنبطت ما يلائم مجتمعها ودولتها وقواها المنتجة، فكانت نموذجاً لتجربة لها وليس لسواها، إنها الحداثة بأصفى تجلياتها الخاصة وبنكهة تركية مميزة، محايثة ومعاصرة، وليس استناداً إلى ماضيها العثماني أو غيره من إرث وتراث العسكر والدولة العميقة، وإن جرى الاحتفاظ منها بالعلمانية كمتلازمة لا يمكن الديموقراطية أن تستقيم من دونها. أما نحن، فلسنا كمثلهم، كما أنهم ليسوا كمثلنا. ويخطئ الذين يظنون أن التديّن يمكنه أن يكون هدف السياسة وغايتها، أو يمكنه أن يساهم في إيجاد حلول ناجعة لمشكلات مجتمع أو دولة. ولئن لم تكن الحداثة الأوروبية نتاج أي مرجعيات دينية، كذلك فإن حداثاتنا الراهنة لن تنجح إذا ما استندت أو جرى إسنادها إلى مرجعيات دينية؛ نصية أو دعوية أو تراثية، على ما يأمل بعض من يجرى توصيفهم ب «متقدمي» التيارات الدينية المعتدلة. لذلك لن يكون «إسلامنا هو الحل» كما لم يكن «إسلامهم هو الحل». الحل كان في خيارات التنوير والحداثة التي آمنت بها قطاعات واسعة من الناس، من كل الطبقات والاتجاهات والتوجهات، هذه القطاعات هي التي شكلت الحل من مزيج الأفكار والمفاهيم الحداثية، السياسية الطابع، التي أسست لمجتمع مدني ولعقد قانوني اجتماعي وسياسي، شكل الجدار الصلب للديموقراطية التي تطورت وطوّرت معها مفاهيم عصرية، أضحى من الاستحالة القفز عنها وتخطيها ثانية، على ما فعل العسكر يوماً، وعلى ما فعلت ويمكن أن تفعل قوى أوغلت في تديّنها الخاص، حتى باتت ناضجة للسقوط إن لم يكن في أحضان العسكر، ففي أحضان قوى الهيمنة الدولية. إن مخاطبة المصالح ومخاطبة المشاعر والأحاسيس ليستا شيئاً واحداً، على ما يعتقد البعض في زماننا هذا، حيث تجري بعض القوى الدينية خصوصاً، مقاربتها للمصالح بانتهازية منقطعة النظير، على أن الانتهازية السياسية كما تتجلى اليوم، فهي المصلحة المباشرة للوصول إلى الهدف السلطوي الأوحد، ولو عبر خلط الحابل بالنابل؛ حابل السياسي بنابل الديني، وهو ديدن «إخواننا الدينيين» و «سلفيي» الموجة المتجددة في الجانبين الإسلامي والقبطي في مصر المحروسة اليوم؛ بعد أن أتاحت «ثورة 25 يناير» لهم حرية التنفّس والتعبير، بعد كبت وحرمان نظام الطغيان الاستبدادي، وهم يحاولون إعادة إنتاجه بزعامتهم، بعد تغيير يافطاته وشعاراته. فأين هؤلاء وأولئك من النموذج التركي؟ وأين النموذج التركي من تلك النسخ الكربونية لاستبداد الديني الساعي الى وراثة الاستبداد السياسي قسراً وبالإكراه والغلبة مرة جديدة؟ * كاتب فلسطيني