بعد كتابها «فيض المعنى»، صدر للناقدة خالدة سعيد كتابان في وقت واحد هما «جرح المعنى» و «أفق المعنى» (دار الساقي). وهذا التوكيد اللفظي في عناوين الكتب، يؤكد في جوهره استراتيجية البحث عن أطياف متعددة للمعنى لدى الناقدة التي راقبت حركة الحداثة الشعرية عن كثب خلال خمسينات وستينات القرن العشرين، وساهمت فيها نقدياً. الكتاب الأوَّل مجموعة قراءات متعددة لنص واحد، مع أن وصفه بال «واحد» لا يبدو وصفاً جازماً. فالنصّ هو «مفرد بصيغة الجمع» وهو من نصوص أدونيس التي أعاد صياغتها عبر مراحل مختلفة من تجربته منذ أول نشر له في العام 1973. وأدونيس نفسه هو علي أحمد سعيد: بمعنى أن ثمة أثنين في واحد في هذا الجانب بالنسبة إلى خالدة المرأة والناقدة: «الشاعر والرجل». وعلى رغم أن الفصل الحقيقي يبدو ضرباً من المحال، تنجح الناقدة في تحقيق قدر من ذلك الفصل نسبياً، وليس مطلقاً بالتأكيد، وهي التي جربت من قبل الانفصال عن التوقيع باسمها، نحو اسم مستعار. فتقرأ الشاعر بقصيدته وتستنج سيرته، ولا تُسقط عليها تجربة الرجل الشخصية لتخبر عن حياته، فذلك أمرٌ لا يتعلق بما تسعى له خالدة في اختبار قدرة القراءة على التأويل، وهكذا تقرأ النصّ بوصفه نوعاً من السيرة الشاملة للتاريخ والذات، ولتحولات الذهن وتجليات الجسد، بينما تنحِّي فكرة التناص عن هذا النص رغم اعترافها بأنه يتضمنه، مكتفية بالتلميح أنه ينطوي على «تضمينات تؤرخ لمقاتل الجماعات الثائرة». وواقع الحال أن أهم المصادر التي تتناص معها قصيدة أدونيس مفقودة بالفعل، ولم يبق منها سوى «رقاع سرية» و «دفتر أخبار» فكتاب «الحاسة السادسة» الذي يرد ذكره في نص أدونيس، ولم تتوقف خالدة سعيد عنده، أحرق مع مؤلفه «ابن أبي العزاقر الشلمغاني» وتلميذه الناقد «أبن أبي عون» صاحب كتاب التشبيهات، سنة 322 هجرية، وكثرت حول أفكاره التشنيعات أكثر من الحقائق، فطروحاته كانت ذات نزعة صوفية حلولية: «اللاهوت بالناسوت» والواحد الذي يتعدّد في الجماعة، في حلول يفضي عبر تناسخ متعدد التجليات إلى تحويل الفرد إلى سلالة متعدَّدة ترتبط بالمطلق الكلِّي، وهو من أوائل من أسسوا لثالوث «الاسم والباب والمعنى» فيما يعيد أدونيس شحن تلك الوقائع المحذوفة من التاريخ بكثافة تخيلية لإعادة كتابة سيرة القتلى وترميم نصوصهم المفقودة. وفي ربطها للشخصيّ بالتاريخي والكوني تدرس في الفصل الأول المسافة الحرجة والمعقَّدة بينَ البداية والنهاية، بين الرحم والتربة، المهد والمدفن للجسد «لم تكن الأرضُ جَسَداً/ كانتْ جرحاً» ولأنّ الحياة «رحلة تيه» فإنها تحيل الكثير من الرموز داخل النص إلى نزعة «أورفية» في شعر أدونيس. ولأنَّ هذه الرحلة عادة ما تكون مصحوبة بمأزق الهوية، تخصص فصلين لدراسة قلق الهوية داخل النص منطلقة من عبارة أدونيس: «مُستقلاً ولي مُعين/ تامَّاً وبي نقصٌ/ منظوماً وكُلِّي انتثارٌ» لتصل إلى جرح آخر، جرح في الهوية، والرغبة المستمرَّة بالانشقاق عن الجماعة للوصول إلى الفرد. وعبر فحص ثنائية المجاز والحقيقة، والمسافة بين الصورة والمعنى تؤكّد أن المجاز الذي يسلكه أدونيس ليس نفقاً لمراوغة الحقيقة، إنما هو رحلة تحاول الوصول إلى تلك الحقيقة التي تسكن العتمة. فالصورة هي الوجه الخفي للمعنى، أو لذلك الجرح غير المرئي للمعنى. ولعل هذا ما دفع أدونيس إلى ملاحقة المعنى عبر «مرايا متعددة» ومسرحة العالم والتاريخ عبر الاستعارة والتأويل ليصبح معهما المعنى طيفياً، ودخاناً متصلاً بين حرائق الماضي والراهن. وفي توثيق ذا دلالة ترفق خالدة سعيد في ملاحق كتابها تقديمها لديواني أدونيس «أغاني مهيار الدمشقي» و«كتاب التحولات والهجرة في أقاليم الليل والنهار». في كتابها الثاني «أفق المعنى»، ترصد صاحبة «حركية الإبداع» مشكلات الحداثة الشعرية العربية ونماذجها من خلال «عقدة كلكامش» المجسَّدة في تلك الرغبة في مضاهاة البطل الأسطوري، بهويته الخارقة ذات الأطياف المتعددة فهو الرائي العارف، الذي يجتمع في هويته الآلهة والبشر، وهو المسافر التائه والعائد، الباني، والمستبد. لكنّ خلاصة تلك العُقدة في: «ثلثاه إله وثلثه الباقي إنسان» مما يعني تمزقاً في الهوية وازدواجاً في الشخصية ومحنة المصير. ولأنَّ الحداثة في جوهرها صراع بين هذه «الأثلاث» وفي محاولة للخروج من مأزق البطل، تشير الناقدة إلى نماذج اتخذت من الإنسان الأرضي محوراً لها، وانحازت إلى «الثلث الثالث» في شخصية غلغامش، كشخصيات «مهيار» لدى أدونيس، و «سرحان» لدى محمود درويش، و «الأخضر بن يوسف» لدى سعدي يوسف، لتصل إلى أوضح صورها اليومية مع شخصية البطل المتسكع في تجربة الماغوط، كما تربط الفكرة كذلك بالمسارات الجديدة في الرواية العربية من خلال نماذج مختلفة. بيد أنها تتوقَّف ملياً عند تجربة جبران خليل جبران في «خلق لغة جديدة داخل اللغة القديمة» عبر ما تسميه النص المزدوج القائم على تعاضد ثنائية الظاهر والمحجوب الذي يجعل من الرمز إشارة إلى الخفي، بتلازم جمالي يحيل ذلك الجوهر الخفي إلى محسوس ومرئي. وهو ما يعبر عنه بوضوح في عبارة من «يسوع ابن الإنسان»: «البذرةُ المخفيَّةُ في قلب التفاحة شجرةٌ غيرُ منظورة»، وفي المقابل تناقش تجربة الرصافي بوصفها تجسد مشكلة ازدواج من نوع آخر بين ذهنية متجددة وشعرية مستعيدة. ومع امتلاكه ذهنية التغيير والتحرر، والتجربة النهضوية الصادقة، إذ كان أميناً لما يراه ويعيشه، إلا أن أداءه التعبيري في الشعر ظلَّ رهيناً لبلاغات قديمة وشكل مستعاد. وفي مقالات متفرّقة تقارب تجارب لعدد من رموز حركة الحداثة العربية: فيوسف الخال الذي تستعير تعبير أدونيس في وصف تجربته بوصفها «فاتحة التجربة المسيحية في الشعر العربي»، يختفي خلف قناع إبراهيم كبطل فادي في «البئر المهجورة»، مما يشير إلى إنها صورة ظلية مُضمرة للخال نفسه، وتمثيل للحس الفجائعي للإنسان في عموم تجربته، فهو «البئر المهجورة» التي يمرّ بها البشر ولا يشربون منها إنما «ترمي بها حجر». أما نازك الملائكة فبقيت رهينة العالم الرومنطيقي الذي اختارت عزلتها داخله، على رغم تجديدها العروضي وفي عدد من الموضوعات، وهو «عالم يمضي إلى الوراء بينما نحن في قطار يعبر بنا الأزمنة ويترك الأشياء خلفه» بينما أمعن خليل حاوي في شعر الرؤيا بصوره الذهنية والتماهي مع الموروثات والمرجعيات التوراتية، ليشيد عالماً مأساوياً مكثفاً، انتهى إلى خاتمة متوافقة مع هذا العالم المأساوي بعد انتحاره، فيما يبدو الماغوط «صوتاً وحيداً منهزماً متمسكاً بعزلته وهزيمته». وتلامس عبر مقالات موجزة تجارب لميعة عباس عمارة، وفؤاد رفقة وعبد الله البردوني والشابي، وسواهم ثم تتوقف عند «طلائع التجديد في مصر» وتحديداً جماعتي «الديوان» و «أبولو». بوصف تلك الحقبة ممهِّدة لظهور حركة الشعر الحديث، قبل أن تخص كلاً من محمود درويش والسياب بدراستين مطوَّلتين نسبياً. فمحمود درويش الذي تصفه بكاتب الملحمة الكُبرى للمعنى الفلسطينيّ، ترى أنه انعطف نسبياً عن شعر «الالتزام» بعد تجربة بيروت، والاجتياح الإسرائيلي، حيث ظهر في شعره ميل لنبرة أكثر أسى وشفافية وتأمل، ممثلةً لذلك الانعطاف ابتداء من قصيدة «مأساة النرجس ملهاة الفضَّة»، على رغم أنّ شعره بقي في هويته الكلية شعر إضاءة وتوصيل، لا شعر حيرة... شعره ينحاز إلى الجمال المطلق: فلسطين، بشحنة رومنطيقية وغنائية عالية، وتركز على استلهامه لمراثي أرميا، ففكرة التهجير القسري وحلم العودة إلى الأرض هي من صميم سفر مراثي أرميا. لكنها تنوه إلى أن الافتراق عن نصوص التوراة التي تحفل بحضور طاغ للخطيئة والخطاة وتضج بأناشيد الندم والتفجع، يكمن في كون الشعر الفلسطيني يقارب مأساة الفلسطينيين الذين هم، بالعموم، ضحايا بلا خطيئة. وإذ ترصد خصوصية الإيقاع في شعر درويش فهي تفعل ذلك بمعزل عن أية ظاهرة وزنية عروضية، وإنما تخضعه لوتيرة الزمن، وأزمنة الأفعال وتداخل الإرث الملحمي بالواقع الراهن. أمّا السيَّاب الذي تقدِّم سعيد قراءة متعددة الاتجاهات لفرديته «أنشودة المطر»، فهي تعترف بأن ما تقوم به مشروع قراءة مرشحة على الدوام للتجدد والتطور. فما من قراءة أحادية، لذا كان طبيعياً أن تتسم ببعض المراجعة، المتغايرة حيناً والمتفاعلة وحتَّى المتصادمة حيناً آخر، وعلى رغم احتفائها الظاهر بنص السياب بوصفه نصاً مؤسساً، لكنّ جملة من الإشارات المتصلة بمستوى البناء الموضوعي للقصيدة واستخدام الرموز تحيل القصيدة إلى إرث تقليدي في الشعر العربي، فالاستهلال ليس سوى اقتداء بما درج عليه الشعر العربي من المطلع الغزلي، حتى إنها ترصد ملامح طللية في القصيدة مقرونة «بمشاعر رومنطيقية لم تفارق السياب»، لكنها ترى في مكان آخر أن هذا البناء الموضوعي المتعدد ينطوي على وحدة موضوعية، حتى وهو ينفتح على تيارات الوعي. وفي قراءة أخرى تنطلق من العنوان لترى أن الهوية المائية ذات الدلالة على الخصوبة المرتبطة بالمطر، تتعدّى حدود الخصب الزراعي، نحو خصب أشمل، بخاصة عندما يرتبط المطر بوصفه عنصراً طبيعياً مع «الأنشودة» بوصفها تعبيراً إنسانياً، فتتداخل الحدود بن العناصر والمشاعر: بين الطبيعة والإنسان. وعلى هذا النحو تتقصى حركة الضمائر وطبيعة الأصوات داخل القصيدة، لتصل إلى كثافة المشاعر مشدِّدة على حضور الخوف وأطيافه المتعددة، حيث يتحول التغزل بالمرأة إلى خوف من القمر! على غير ما درج عليه الشعر العربي بتشبيه وجه المرأة الجميلة بالقمر، بينما تعزو التكرار في القصيدة، خاصة مع «مطر مطر» إلى نوع من التعزيم، ولعله تعويذة مضادة للخوف. ثم تدرس تكوين الصورة الشعرية في «أنشودة المطر» من خلال مشهدية متسعة تجزئها إلى لوحات منفصلة تقوم على عناصر البلاغة من مجاز وتشبيه واستعارة. وهكذا تلخص طبيعية هذه القراءات المتعددة لقصيدة واحدة، فكرة أن خالد سعيدة مشغولة بمنهج البحث عن تجليات طيفية للمعنى الواحد.