هناك بيننا من يؤيِّدون الثورات العربية كلها من دون استثناء، وهو موقف يمتد من القناعة الصائبة بأن الأنظمة جميعاً شائخة هرمة، وأن الشعوب جميعاً محرومة من الحرية، إلى وعي فوضوي أو آخر عدمي يحضان على تأييد كل ما يزلزل واقعاً قائماً. وهناك من يعارضون الثورات كلها من دون استثناء، وهو أيضاً موقف يمتد من وجود مصالح تتنافى مع أي تغيير، إلى تمسك بموقف رجعي أو محافظ، أو تخوُّف من التكيُّف مع الجديد، وصولاً إلى وعي راسخ في ولائه للتطور التدريجي، أو ما يُظن أنه كذلك. لكن مفارقة الواقع العربي الراهن تتمثل في وجود موقف عريض ينسب ذاته إلى أقصى الثورية، إلاّ أنه يعارض الثورات كلها ويشكِّك بها جميعاً. وقد أيَّد أصحابُ هذا الموقف الانتفاضتين التونسية والمصرية، إلا أن التأييد ما لبث أن برد وتراجع، فحينما انتفضت ليبيا وطالب منتفضوها بالتدخل الدولي، بدأ انتقالهم إلى «الثورة المضادة» في كل البلدان المنتفضة، وعندما شرع النظام السوري، في مواجهة انتفاضة شعبه، يطوّر التشكيك والإدانة للانتفاضات من دون استثناء، وجد سلوكُه صدى عزّز تلك المعارضة للثورات. هكذا تبلور موقف مضاد للثورة في أكثر البيئات ثورية. والتناقض كان يشرح نفسه بأشكال عدة: فالرئيس مبارك أميركي والثورة عليه باتت أميركية أيضاً. والثورات في عمومها قابلة للشراء أو للخطف فضلاً عن أنها عاقّة بفلسطين، وما يعقّ بفلسطين لا يكون ثورة. وهي إسلامية أكثر مما يجب، وعسكرية أكثر مما يُحتمل. المشكلة أن أصحاب الموقف الأقصى ثورياً جعلوا الثورة جوهراً جوهرياً يتعالى على التاريخ، ولا تنعكس عليه تحوّلات العالم ومستجدّاته، فهم التصقوا بتعريفهم القديم للثورة التصاقاً يكاد يكون توحداً صوفياً، فما أن بدتِ الأمورُ مختلفةً عن تصوراتهم، حتى ارتدّوا عن الثورات هاجِين لها، منتفضين عليها. لكن الثورة، مثل أي شيء آخر، ليست جوهراً جوهرياً، فقد تتغيّر معانيها ومطالبُها، بحيث لا يعود يجمعها بسابقة لها إلا الحد الأدنى، فتلك التي تطلب الاستقلال من محتل أجنبي غير تلك التي تنهض ضد حاكم يحدّ من التواصل مع الثقافة وطرق الحياة الأجنبية. وأبعد من ذلك تغيُّر جميع المكوّنات التي صنعت وعْيَنا (السابق) للثورة: فالمكوّن القومي مثلاً، بدأ يعيش تداعِيَه البطيء منذ انهيار «الجمهوريّة العربية المتحدة» في 1961، الأمر الذي تَوَّجَه تكشُّف الأنظمة «القومية» عن عصابات قهر وفساد. والمكوّن الطبقي صَدَّعَه انهيار الاتحاد السوفياتي وبلدان منظومته، وهو ما كان له امتدادُه عندنا، ممثَّلاً في المسخرة الدموية لجنوب اليمن. والمكوّن العنفي أوهنته الحروب الأهلية، التي تولت المقاوماتُ على أنواعها سَوْقَ شعوبِها إليها. ومثلما آلت تلك التطورات - وغيرها - إلى تغيير المعاني والدلالات، دفعت في الاتجاه ذاته تحوّلات أخرى، كمثل نشأة العولمة وأدوات تواصلها واتساع رقعة الهويات القطاعية والشبابية والجندرية وسواها، ناهيك عن الانقلاب الهائل الذي طال - ويطال - التركيب الطبقي والديموغرافي لمجتمعاتنا. وإذ تؤخذ تلك العناصر في اجتماعها، يصير المطلوب التعلم مما يجري بقدر من التواضع، فهذه الانتفاضات ليست مرايا لأفكارنا التي يُحِيلها التقادمُ خرافاتٍ، وليست مشروعاً لإقامة الجنة على الأرض، كما أن طريقها سيكون محفوفاً ب «إسلاميين» و «عسكريين» ونزاعات أهلية وتدخلات أجنبية يلتقي فيها الإيجابي بالسلبي. أما الأمر الوحيد المؤكد، فأن المجتمعات المقهورة والمهانة سيتاح لها أن تنخرط في مغامرة التجربة والحرية التي كانت المعاني القديمة ل «الثورة» بعضَ ما يكبح الانخراطَ فيها. وفي خضمّ هذه التجربة، ستُفتى الشعوب في مسؤوليتها عن نفسها، ومن ثم في تعريفها لمعانيها المستجدة، وربما لدولها ومجتمعاتها المحتملة. أما صوفيّو المعاني القديمة، الذين يختصرون الأمر ببضعة صواريخ، فإن صدأ أفكارهم سيكون الأكثر تأهيلاً لمنافسة الصدأ الذي سيعلو الصواريخ.