الجوازات اختراع حديث نسبياً، فقد كان العالم يعيش من دون أي قيود على التدفقات البشرية، وكان البشر يتداخلون مع بعضهم البعض بسلاسة، لا يمنعهم إلا وعورة الطرق وانعدام أمن بعضها. فنجد سكان السهول الخصبة والمدن البحرية يعيشون بتركيبة سكانية متجددة، أما سكان الجبال الوعرة والصحاري القاحلة فتبقى تراكيبهم العرقية أكثر تماسكاً. ومع انفجار عصر تكنولوجيا النقل باختراع القطارات والطرق والسيارات والطائرات ازدادت كثافة انتقال البشر، فوجدت الدول نفسها بحاجة إلى حماية ثرواتها وأمنها من الاختلال المفاجئ لتركيبتها السكانية بسبب الهجرة، لكن هناك نوعين من البشر العابرين للحدود: المعدمون مالياً ومهارياً، وأصحاب المهارات والمال. الدول الغنية أدركت حاجتها إلى استقطاب فئة أصحاب المهارات وأصحاب المال، وذلك لأنهم رافد اقتصادي متجدد يضخ الدماء الجديدة والحياة في اقتصاد تلك الدول، أما المعدمون مهارياً ومالياً كاللاجئين فهم دائماً يبقون عبئاً على الدول التي تستقبلهم، وذلك بسبب تقوقعهم على بعضهم البعض (كما نشاهد في بعض الجاليات بمكة المكرمة) وعدم قدرتهم على الاندماج في التركيبة السكانية المضيفة. الوضع لدينا في دول الخليج يختلف تماماً عن بقية دول العالم، وذلك لأننا لسنا شعوباً منفتحة تستوعب المقبلين للاندماج فيها، فعزلتنا في صحارينا وجبالنا لقرون طويلة طبعت فينا ثقافة الانغلاق العرقي. لكن اكتشافات النفط فجرت لدينا الرغبة في كسر عزلتنا استهلاكياً (وليس ثقافياً)، فأصبحنا نبحث عن الأجنبي بعيون استهلاكية، نريد بضائعه ونريد عضلاته ونريد مهاراته، ليس لدمجها بيننا وتوطينها بل لاستهلاكها، وانتشرت ثقافة استهلاك الأجنبي حتى أصبحت بديهية لا يناقش منطقيتها أحد، وبدأت مضار ثقافة استهلاك الأجنبي واضحة للعيان، لكنها صمدت صموداً جعلها تتوارى حتى عن التساؤل عن جدواها. وأصبح وجود الأجنبي مسؤولاً عن تسرب بلايين ضخمة من أموال نفطنا إلى الخارج، وأصبح وجوده مسؤولاً عن تسرب ملايين فرص العيش والكسب من يد أبنائنا وبناتنا، وأصبح وجوده رافداً طاغياً لتعميق الهوة بين أبناء البلد وبين اكتساب المهارات المهنية والعملية. هناك فعلاً أضرار حقيقية وعميقة لوجود الأجنبي المكثف، فإذا اعتذرنا في السابق بأننا بحاجته لإنشاء البنية التحتية، فما الذي يجعلنا نستمر بجلبه بعد أن قامت تلك البنية، وبعد أن أصبح غالبية الشعب في فئة عمرية أقل من 30 عاماً وتحتاج إلى العمل حاجة ماسة! إذا علمنا أن متوسط الزمن الذي يتطلبه إعداد الطبيب الاستشاري «20 عاماً»، (وهي المهارة الأعقد)، فما بالنا لم نوطن المهارات والمهن خلال ال «40 عاماً» التي مضت؟! هناك من سيقول إن المواطن لا يرضى بالراتب القليل، ولا يرضى بالعمل الجاد، والجواب نعم، لن يعمل بجد في وظيفة لا يجد فيها مستقبله، ولن يقبل براتب لا يسمح له بفتح بيت إلا في بنغلاديش. الدول التي تنادي بالأسواق المفتوحة وبحرية الاقتصاد هي أول من يبادر بإقرار أنظمة الراتب الأدنى المسموح به، فحرية الاقتصاد لا تعني سحق إنسان البلد ولا استعباده، فإذا فشل الاقتصاد في توجيه الطاقات البشرية للإنتاج، وبجعل أرض البلد خصبة للإنتاج، فإن ذلك الفشل لا يلام عليه العاطل، بل يلام عليه الرؤية الاقتصادية التي أوصلت الحال لما هي عليه. هناك دول مشلولة اقتصادياً لأن إنتاجها لا يكاد يكفي لإطعام أبنائها، إضافة إلى مشكلات سوء الإدارة والفساد، فإذا سمح لأبناء تلك الاقتصاديات بالقدوم إلى هنا والتغلغل في مناشط اقتصادنا من دون ضوابط فستكون بلادنا ساحة عبث مهني كبرى يتعلمون فيها عبر التجربة والخطأ، ذلك الخطأ الذي سيدفع ثمنه اقتصادنا عبر جيوب أبنائه (خصوصاً أنه لا يوجد تدقيق على جدارتهم بالمهن التي قدموا لأجلها)، وسيتحول اقتصادنا إلى نهر تصب في أحواض دول أخرى. وسيصبح اقتصادنا بؤرة فساد وعبث بسبب ثقافة الفساد والعبثية التي نشأوا عليها ونقلوها معهم ووطنوها هنا. يبقى السؤال الملح: هل هناك خطط إحلال وطنية ببرامج تدريب وإحلال مهاري وبتواريخ محدده، أم لا؟ إذا لم يكن هناك شيء سوى اجتهادات برنامج «السعودة»، الذي لم يستطع سعودة سيارات الأجرة أو الليموزينات حتى تاريخه، فإني أخشى أن يستيقظ أبناؤنا ولا يجدوا نفطاً ولا أموالاً ولا مهارات! لا يجدوا إلا صحراء مليئة بالكتل الأسمنتية والزجاجية، وثقافة استهلاك متضخمة يقابلها ثقافة إنتاج معدومة. [email protected]