شاب في مقتبل العمر. لاحظ أهله تصرفات غريبة لم يعهدوها فيه من قبل. هناك تبدلات في سلوكياته وفي أطواره. أخذ ينعزل عن عائلته وعن الآخرين وبدأ يفقد القدرة على التفكير المنطقي ويدعي سماع أصوات ورؤية أشياء غير حقيقية. وفي بعض الأحيان يقتنع بأفكار وهمية لا تمت إلى الواقع بصلة. أصر الوالدان على استشارة الطبيب. وبعد خضوع المريض إلى فحص سريري وتحاليل مخبرية وصور شعاعية للدماغ، اكد التشخيص انه مصاب بمرض الانفصام. وقع الخبر على الأهل كالصاعقة، فلم يصدقوا أن ولدهم الذي يملك معدل ذكاء أعلى من أقرانه، ويتمتع بشخصية قوية، مصاب بمرض الانفصام. مرض الانفصام ليس حديث العهد، بل ورد ذكرٌ لأوصافه في مخطوطات طبية هندية 1400 سنة قبل الميلاد. وأول من وصفه في صورته الحديثة هو البروفيسور الألماني إميل كربلين في العام 1896 وأطلق عليه إسم الخرف المبكر، وظل يحمل هذا الاسم حتى العام 1911، عندما اطلق عليه الطبيب النفسي السويسري يوجين بلوير اسم مرض الانفصام، الذي ما زال يستعمل إلى الآن. يعتبر مرض الانفصام (شيزوفرينيا) من أخطر الأمراض العقلية ويتصف بمجموعة من الاضطرابات التي تشمل الإرادة والتفكير واللغة والوجدان والإدراك وتنتج عنها توهمات أو معتقدات خاطئة، وهلوسات بصرية وسمعية، وتصرفات غريبة أو شاذة، وفقدان الهمة والحماسة والبصيرة. ومع مرور الوقت، تفضي هذه الاضطرابات إلى تدهور كبير في العناية الشخصية وفي العلاقات الاجتماعية والصلات الأسرية والمهارات المهنية. ويمكن القول إن مرض الانفصام شائع نوعاً ما، إذ يطاول واحداً في المئة من الناس، وهو يبدأ عادة في مرحلة المراهقة والشباب، وقد ينطلق في بعض الحالات بعد سن الثلاثين، ومن النادر حدوثة بعد الأربعين. ومن الممكن مشاهدة مرض الانفصام لدى الأطفال اعتباراً من سن الخامسة وحتى لدى المسنين. ويصيب المرض الذكور والاناث بنسبة متساوية، ولكن فترة ظهوره تتباين، فلدى الرجال يبرز بين فترة المراهقة وسن العشرين، أما لدى النساء فيشاهد في مرحلة متأخرة بين الثلاثينات والأربعينات من العمر. ما أسباب الانفصام؟ ما زالت أسباب المرض غير واضحة، ولكن هناك فرضيات تشير إلى أنه ناتج عن عوامل متداخلة، وراثية وتكوينية وبيئية واجتماعية ونفسية، تساهم بشكل أو بآخر في إطلاق عقال الداء، إلا أن العامل الوراثي له الدور المحوري في هذا الأمر، وهذا ما أثبتته دراسات أجريت على العوائل والتوائم، التي كشفت أن احتمال الإصابة يزيد كلما زادت صلة القرابة بالمصاب. فإذا كان المريض يملك استعداداً وراثياً وتوافرت العوامل الأخرى المذكورة بما فيه الكفاية، فإن عوارض المرض تطفو إلى السطح. وعلى صعيد الوراثة، عثرعلماء بقيادة الباحثة البريطانية جاكي بيلروش على عشرات الجينات (المورثات) التي تعمل بطريقة مختلفة في أدمغة المصابين بمرض الانفصام، وقد يساعد هذا الكشف في تحسين، أو ربما استنباط علاجات للمرض. وأوضحت البحوث أيضاً، أن الإصابات والحوادث والالتهابات الفيروسية التي تحصل للجنين وهو في رحم أمه، وفي الفترة التي تلي الولادة مباشرة، يمكن أن تترك بصماتها على الخلايا الدماغية، وبالتالي زيادة خطر التعرض للمرض لاحقاً. ووجدت الدراسات العلمية الحديثة أن مرض الانفصام يكثر في المناطق المكتظة بالسكان مقارنة بغيرها من مناطق الأرياف. كما أن الذين ولدوا في فصل الشتاء هم أكثر تعرضاً له أسوة بغيرهم ممن ولدوا في فصول أخرى. ولا يغيب عن الأذهان أن تعاطي العقاقير المثيرة للنشوة (ايكستازي) يمكن أن يشعل مرض الانفصام عند الذين يملكون استعداداً للإصابة به. ما هي عوارض المرض ؟ تظهر عوارض المرض بهدوء وبطء شديدين، وفي بعض الحالات يكون البدء عنيفاً. في شكل عام، غالبا ما تكون بداية المرض بسيطة ولا عوارض تثير الانتباه، ولكن شيئاً فشئياً، تلحظ الأسرة والأصدقاء والأقرباء وكل من هو على تماس مع المصاب أن هناك بعض الأمور الطارئة قبل البداية الفعلية للمرض، مثل: - النوم المفرط أو - على العكس - اضطرابات في النوم، أو الاثنان معاً. - الكآبة. - العدوانية. - النسيان. - تدهور في العناية والنظافة الشخصية. - الوحدة والانعزال عن الأسرة والمجتمع، وتدهور العلاقات الاجتماعية. - التبدل المفاجئ في الطباع الشخصية. - الاهتمام بالسحر والأشياء الوهمية. - اللامبالاة تجاه المواقف المهمة. - عدم تحمل النقد من طرف أفراد الأسرة والأقارب. - التفكير المشوش. - الهلوسات والتوهمات. - التكلم بأفكار غير مترابطة وغير مفهومة. - صعوبة التركيز حتى في المواضيع البسيطة. - الكسل، أو فرط الحركة، أو الاثنان معاً. - الحملقة من دون رف العينين، أو رفهما باستمرار. - العناد والتشبث بالرأي. - التصرفات الشاذة، وإصدار تعليقات غير منطقية. - الضحك من دون سبب واضح. - اتخاذ أوضاع غريبة. - البكاء المستمر أو عدم القدرة على البكاء. - الحساسية غير الطبيعية تجاه الأصوات والأضواء. - النقص السريع في الوزن. - حلق الشعر في أماكن لا تحلق عادة. كيف يشخص مرض الانفصام؟ يعتمد التشخيص على توافر المعطيات الآتية لمدة لا تقل عن الستة أشهر: 1- وجود عوارض نوعية، مثل تشوش التفكير والأوهام والهلوسات والنظرة المغايرة للواقع لمدة 30 يوماً. 2- وجود خلل يطاول العناية بالنفس والعلاقات الشخصية والأسرية والاجتماعية والمهنية. 3- نفي وجود مرض طبي عام أو أمراض نفسية أخرى مشابهة. ما هو العلاج؟ أمر واحد لا يختلف علية اثنان، هو أن المريض بالانفصام يحتاج إلى المساعدة الطبية، وقد يتطلب الأمر إدخاله إلى المستشفى من أجل تقييم حالته وإجراء الاسقصاءات المناسبة قبل الشروع في العلاج. وبعد التأكد من التشخيص، يعطى المريض الأدوية الحديثة المناسبة التي تعمل على مساعدته في مكافحة العوارض ومنع الاتنكاسات. ولا يجب إغفال دور الأهل والأصدقاء، فهو لا يقدَّر بثمن في هذه الحالات، خصوصاً من ناحية المثابرة على العلاج وتخفيف الضغوط النفسية. ختاماً، لا بد من التنويه إلى ثلاث نقاط في غاية الأهمية : النقطة الأولى، هي أن مريض الانفصام معاق عقلياً وبدرجة كبيرة جداً، ولكن إعاقته هذه ليست ظاهرة للعيان، لذا غالباً ما يساء فهم المريض فلا يتلقى الرعاية والعناية والتشجيع من المحيطين به، كما الحال مع المصابين فعلاً بالإعاقة الجسدية، الذين تفتح لهم الأبواب على مصراعيها، لأن إعاقتهم واضحة وضوح الشمس. النقطة الأخرى، هي أن مريض الانفصام ليس أكثر عدوانية من بقية الناس، بل إن الغالبية العظمى منهم مسالمون. أما النقطة الثالثة، فهي أن المريض قد يلجأ إلى إيذاء نفسه، إما بتأثير الضغوط النفسية والبيئية التي تتجاوز قدرته على تحملها، أو بفعل الهلوسات المرضية التي تأمره بالفعل فيفعل. [email protected]