نشر عبده وازن في عدد الاثنين الماضي من «الحياة» (13 حزيران - يونيو 2011) مقالة استعاد فيها من النسيان «قصائد» كتبها الشاعر الكبير محمود درويش سمّاها «خطب الديكتاتور الموزونة»، وكان محمود يقول على الدوام إنها ليست شعراً؛ ولذلك لم يبادر إلى نشرها في ديوان من دواوينه. كانت مجرد رسم بالكاريكاتور لطاغية عربي عام يجسد، كما أشار وازن محقاً، سمات الطغاة العرب جميعاً. وهي، كما أشار وازن أيضاً، لا تحمل أسلوبية درويش في الكتابة الشعرية، لكنها تحضر الآن في لحظة تاريخية تهاوى فيها طغاة وينتظر المصير طغاة آخرين، على ما يبدو. لكن المرء يستغرب بالفعل شحة الأعمال الأدبية التي تدور حول نموذج الطاغية في الإبداع الأدبي والفني العربيين، حتى اننا عندما نفكر بشخصية الديكتاتور نتوجه مباشرة إلى أدب أميركا اللاتينية، وكأن تلك البلاد احتكرت الطغاة كما احتكرت الموز في يوم من الأيام. كان الطاغية دوماً هو سليل جمهوريات الموز، ومن ثمّ، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن هو روايات عظيمة مثل «السيد الرئيس» لميغل أنخيل أستورياس، و «مائة عام من العزلة» لغابرييل غارسيا ماركيز، التي تصور عبور أميركا اللاتينية في قرن من الطغيان، وكذلك «الجنرال في متاهته» لماركيز أيضاً، والتي تصور نموذجاً فريداً من الطغاة وأقدارهم العجيبة. إننا نحيل إذاً على أدب آخر، عندما نفكر بطغاتنا ولا يمر بخواطرنا عمل أدبي واحد لكاتب عربي يصور فيه طاغية، على رغم كثرتهم وتميزهم عن غيرهم من طغاة العالم وحكامه المتفردين بالسلطة. وقد كشفت الثورات والانتفاضات العربية عن سمات وخصائص بارزة في شخصية الديكتاتور العربي؛ فهو يتميز بالعناد الشديد والتمسك بالسلطة حتى آخر قطرة دم من شعبه، كما أنه يستعمل أساليب متنوعة للالتصاق بكرسيه فيمالئ الشعب ويداهنه ويستعطفه، وبعد ذلك يهدده ويتوعده ويتهمه بالتعاون مع الخارج؛ فإذا فشلت كل هذه الأساليب فإنه يلجأ إلى القتل وسيلة وحيدة لحسم الاحتجاجات السلمية. الغريب أن مفكري الغرب وفلاسفته صوروا الصقع العربي من العالم بوصفه مسقط رؤوس الطغاة، فتحدثوا عن الاستبداد الشرقي بوصفه سبباً أساسياً لتأخر هذه المنطقة وبكونه أصل البلاء فيها. لكن الكتاب العرب لم يقاربوا هذا الموضوع الذي يتصل بحياة العرب المعاصرين اتصالاً وثيقاً. لقد بقي كتاب عبدالرحمن الكواكبي «طبائع الاستبداد» أهم كتاب شخّص الظاهرة ودلّ العرب على سبل الدخول في الزمان الحديث. لكن النقص الخطير يتمثل في جوانب الخلق الفني، والتخييل الذي يفتقر إلى نماذج الطغاة الذين يعمرون الأرض العربية منذ قرون وقرون. حتى الأعمال الفنية التي صورت الطاغية وأهواءه، في المسرح والسينما العربيين، قدمت كاريكاتوراً لهذه الشخصية العجيبة المركبة المتعددة السطوح والأعماق، ولم تسع إلى تقديم صورة متعددة الوجوه لها. السبب في تجنب الكتاب العرب تصوير نموذج الطاغية يعود إلى الرقابة الخانقة على الأعمال الأدبية والفنية، والقيود التي تفرض على هذه الأعمال منذ التفكير في عمليات الإنتاج، والحدود التي تحول دون دخول هذه الأعمال فيما لو وجدت. لهذا فضل المنتجون الثقافيون ألا يغضبوا الرقابات العتيدة، التي تعلم علم اليقين أن أي عمل يتحدث عن الطغيان والطغاة يتحدث، بصورة أو أخرى، عن طغيان في بلادهم وطاغية يتربع على سدة الحكم في عواصمهم. فالأفضل في هذه الحالة أن يلجأ الكاتب إلى الرمز والمواربة في التعبير، وأن يلجأ المسرح والسينما إلى النكتة والكاريكاتور حتى يمكن ابتلاع اللقمة غير السائغة بالنسبة الى الرقابات العربية. لكن ذلك أفقر الأدب والثقافة العربيين، وحرمنا من أعمال كبيرة في الرواية والمسرح والسينما كتلك التي أشرنا إليها في أميركا اللاتينية، وهي بلاد كان فيها القمع أكثر قسوة وعنفاً، والجبابرة أكثر جنوناً وطغياناً، لكن أدباءها وفنانيها كسروا حاجز الخوف فكتبوا ورسموا وأبدعوا مسرحاً وسينما تصور الطغاة وهم في عنفوانهم. إن الحال الآن لم يعد كما كان قبل أشهر، ونحن لا ندري أي حالات يعبر الديكتاتور العربي، وكيف يشعر عندما يهتز الكرسي تحته. لكن على الروائيين والمسرحيين والسينمائيين أن يتنبهوا لكي يلتقطوا هذا النموذج الغائب في الإنتاج الثقافي العربي، لتصبح لدينا آداب وفنون كبيرة كما لدى الأمم الأخرى.