يُتحفنا اللوفر بتقديم مساحة مثيرة من ذخائر مستودعاته الثرية ومقتنياته خلال عقود (منذ تشجيع نابليون بونابرت وعنايته). هي الخاصة على الأغلب بموضوع الطبيعة الشعرية للجغرافيا الخضراء في الأقاليم والغابات والوهاد الفرنسية (منافسة مدرسة المناظر الإنكليزية)، وهي التي قادت منذ بداية القرن التاسع عشر إلى تيارات ومدارس من المناظر التصويرية تحمل اسم الغابات التي اختصت بها مثل مدرسة الباربيزون والفونتين بلو؛ ثم قادت تدريجاً إلى المختبر الانطباعي بقيادة كلود مونيه (وكلود دوبوسي في الموسيقى). لعله التيار السابق للتجريد الغنائي العالمي أو الباريسي. ولكن سلسلة معارض متحف اللوفر التي نحن بصددها اختصت بالتيارات الأسبق: الكلاسيكية والرومانسية والباروك والركوكو منذ القرن السادس عشر، وقد تصل حتى «واقعية» كورو وكوربيه. المتذوق بحاجة إلى التذكير الدائم بأفضال هؤلاء، وعلى رأسهم أباطرة التصوير مثل بوسان وآنغر، ومعرض اليوم خاص بواحد من هؤلاء، عرف باسم المنطقة الشمالية التي ينتمي إليها. يدعى كلود لورين، فهو مولود في الفوج حوالى عام 1600 وتوفي فيها عام 1680 إثر مرض عضال عطله عشرين سنةً في أواخر حياته، قضاها مع بوسان في روما ثم باريس، قبل أن يعود إلى منطقته. عرف إذاً بهذا اللقب أما اسمه الحقيقي فهو كلود جيللي. يكرمه اليوم متحف اللوفر بقاعاته الرحبة في معرض استعادي بعد أن غاب اسمه خلال ثلاثين سنةً: تاريخ معرضه السابق. يستمر العرض حتى أواخر تموز (يوليو)، أقيم بوقت متزامن معه معرض في متحفه ومنزله الطفولي الذي قضى فيه أيام تفتحه على العالم والتصوير، وبالتالي فالمتحف يقع في مقاطعة اللورين (الفوج) يرتبط به عنوان المعرض: «كلود جولي في اللورين» الذي يستعيد عنوان معرض باريس المشار إليه (والذي يمثل في أغلبه مجموعة اللوفر). إذا كان هذا الفنان المنسي صنواً روحياً للفنان بوسان بما جمعتهما من صداقة وصحبة أسفار خاصة إلى روما من أجل الدراسة الكلاسيكية، فإن ما يميز فناننا عن بوسان هو اقتصاره أو تركيزه بالأحرى على أفضلية الرسوم الخطّية (ذات اللون الأحادي المأخوذ مباشرة عن الطبيعة) على اللوحة الزيتية الملونة. وإذا كانت الأخيرة في ذلك الوقت تحتاج إلى المنهج الأول في الرسوم التحضيرية للتكوين النهائي، فإن كلود لورين اقتصر في فنه على هذه الرسوم بتقنياتها المتعددة على الورق من أقلام وريش، من حبر صيني ولافي إلى فراشي الغواش وطبشور الباستيل، يعانق المعرض 12 لوحة مستعارة من متاحف أخرى تمثل مراحله الشابة المبكرة، أي أنه اختط هذه الحساسية منذ بدايته: حساسية تفوق الرسم التحضيري السريع التلقائي العاطفي أو الحدسي في الهواء الطلق على اللوحة المتأنية بالألوان الزيتية على القماش والتي تحتاج إلى وقت مديد متمهّل. بل إنه يعتبر الأول الذي أخرج رسومه (الكروكي السريع) من عتمة المحترف إلى الإنجاز المباشر في الهواء الطلق مستشرفاً منذ بداية القرن السابع عشر عقائد الانطباعية في نهاية القرن التاسع عشر. تكشف لوحته «منظر ريفي مع الشجرة الكبرى» (عام 1645) التنافس بين القلم والفرشاة، بين ريشة الألوان الزيتية وريشة الحبر الصيني أو اللافي الشفاف. تأثر بحميميته وشفافيته الشاعر فيكتور هوغو (لا تقل موهبته في رسم اللافي على الورق عن عبقريته الأدبية، يجمع متحفه الباريسي في حي الفنانين سان جرمان ألف لوحة بالغة الأصالة وعلو التقنية الخطية)، كما أثر في غيره مثل أوديلون رودون. بقي أن نذكّر بأن النزعة الريفية في هذه الفترة كانت تجمع الرسم والموسيقى معاً، أليست السيمفونية السابعة الريفية لبيتهوفن مثالاً حياً على التأليف الأوركسترالي في الهواء الطلق وحضن الطبيعة خروجاً من قيود سجن الغرف المغلقة، كما هي موسيقى الحجرة؟ وصل كلود لورين إلى إيطاليا مع بوسان عام 1617، وظلّ يرسم كل ما يراه في روما حتى تركها عام 1635. رسوم «بازيليك وقبة سان بيير 1630 تثبت موهبته الاستثنائية في الرسم، بما لا يقل عن معلمي عصر النهضة، فكان الأول الذي عالج الفراغ الطبيعي بهذه السديمية الضوئية، ووجد في رسم الآثار والبقايا الحضارية صفاء للنور الطبيعي، فكان ينجز دفاتر رسومية بكاملها، تجتمع موضوعاتها حول محور (أو تيمة) محددة. يلاحظ بعض النقاد أن ابتعاده عن رسم شجرته العملاقة يمثل الهجرة الحزينة عن الجغرافيا الخضراء في موطن ومرتع وحضن تفتحه الطفولي في غابات النورماندي. لذلك لم يبق كثيراً في باريس. سرعان ما حمله الشوق إلى ربوع الشمال هذه: مرض فيها وتوفي وشكلت مثواه الأخير. هو ما يفسّر تفضيل أهل النورماندي لاسمه المجازي (لقب نورماندي) على اسمه المسجل في سجلات قيد النفوس الرسمي.